الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الاعتصام ***
ثُمَّ أَتَى بِمَأْخَذٍ آخَرَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةٍ مَا زَعَمَ، وَهُوَ أَنَّ الدُّعَاءَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ؛ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ نَهْيٌ عَنْهُ، مَعَ وُجُودِ التَّرْغِيبِ فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَوُجُودِ الْعَمَلِ بِهِ، فَإِنْ صَحَّ أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ؛ فَالتَّرْكُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِحُكْمٍ فِي الْمَتْرُوكِ؛ إِلَّا جَوَازَ التَّرْكِ وَانْتِفَاءَ الْحَرَجِ خَاصَّةً، لَا تَحْرِيمَ وَلَا كَرَاهِيَةَ. وَجَمِيعُ مَا قَالَهُ مُشْكِلٌ عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ، وَخُصُوصًا فِي الْعِبَادَاتِ- الَّتِي هِيَ مَسْأَلَتُنَا-، إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَنْ يَخْتَرِعَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ رَأْيِهِ أَمْرًا لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْهَا دَلِيلٌ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْبِدْعَةِ، وَهَذَا كَذَلِكَ، إِذْ لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى اتِّخَاذِ الدُّعَاءِ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ فِي آثَارِ الصَّلَوَاتِ دَائِمًا، عَلَى حَدِّ مَا تُقَامُ السُّنَنُ، بِحَيْثُ يُعَدُّ الْخَارِجُ عَنْهُ خَارِجًا عَنْ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، مُتَحَيِّزًا وَمُتَمَيِّزًا... إِلَى سَائِرِ مَا ذَكَرَ، وَكُلُّ مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَهُوَ الْبِدْعَةُ. وَإِلَى هَذَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ يُوهِمُ أَنَّ اتِّبَاعَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُقَلِّدِينَ خَيْرٌ مِنَ اتِّبَاعِ الصَّالِحِينَ مِنَ السَّلَفِ! وَلَوْ كَانَ [هَذَا] فِي أَحَدِ جَائِزَيْنِ [لَمَا قُبِلَ]؛ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا مُتَيَقَّنٌ أَنَّهُ صَحِيحٌ وَالْآخِرُ مَشْكُوكٌ فِيهِ؟ فَيُتَّبَعُ الْمَشْكُوكُ فِي صِحَّتِهِ، وَيُتْرَكُ مَا لَا مِرْيَةَ فِي صِحَّتِهِ، وَيُؤَلَّبُ مَنْ يَتَّبِعُهُ؟!. ثُمَّ إِطْلَاقُهُ الْقَوْلَ بِأَنَّ التَّرْكَ لَا يُوجِبُ حُكْمًا فِي الْمَتْرُوكِ إِلَّا جَوَازَ التَّرْكِ، غَيْرَ جَارٍ عَلَى أُصُولِ الشَّرْعِ الثَّابِتَةِ. فَنَقُولُ إِنَّ هُنَا أَصْلًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لَعَلَّ اللَّهَ يَنْفَعُ بِهِ مَنْ أَنْصَفَ فِي نَفْسِهِ: وَذَلِكَ أَنَّ سُكُوتَ الشَّارِعِ عَنِ الْحُكْمِ فِي مَسْأَلَةٍ أَوْ تَرْكِهِ لِأَمْرٍ مَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا:- أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ أَوْ يَتْرُكَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا دَاعِيَةَ لَهُ تَقْتَضِيهِ، وَلَا مُوجِبَ يُقَرَّرُ لِأَجْلِهِ، وَلَا وَقَعَ سَبَبُ تَقْرِيرِهِ؛ كَالنَّوَازِلِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً ثُمَّ سَكَتَ عَنْهَا مَعَ وُجُودِهَا، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَاحْتَاجَ أَهْلُ الشَّرِيعَةِ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا وَإِجْرَائِهَا عَلَى مَا تَبَيَّنَ فِي الْكُلِّيَّاتِ الَّتِي كَمُلَ بِهَا الدِّينُ. وَإِلَى هَذَا الضَّرْبِ يَرْجِعُ جَمِيعُ مَا نَظَرَ فِيهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِمَّا لَمْ يَسُنُّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُصُوصِ مِمَّا هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى؛ كَتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ، وَمَسْأَلَةِ الْحَرَامِ، وَالْجَدِّ مَعَ الْأِخْوَةِ، وَعَوْلِ الْفَرَائِضِ، وَمِنْهُ جَمْعُ الْمُصْحَفِ، ثُمَّ تَدْوِينُ الشَّرَائِعِ.. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَحْتَجْ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى تَقْرِيرِهِ، لِتَقْدِيمِ كُلِّيَّاتِهِ الَّتِي تُسْتَنْبَطُ (بِهَا) مِنْهَا إِذَا لَمْ تَقَعْ أَسْبَابُ الْحُكْمِ فِيهَا وَلَا الْفَتْوَى بِهَا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمْ يُذْكَرْ لَهَا حُكْمٌ مَخْصُوصٌ. فَهَذَا الضَّرْبُ إِذَا حَدَثَتْ أَسْبَابُهُ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهِ وَإِجْرَائِهِ عَلَى أُصُولِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْعَادِيَّاتِ أَوْ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى مَا سُمِعَ؛ كَمَسَائِلِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ فِي أَجْزَاءِ الْعِبَادَاتِ. وَلَا إِشْكَالَ فِي هَذَا الضَّرْبِ؛ لِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ عَتِيدَةٌ، وَأَسْبَابَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ لَمْ تَكُنْ فِي زَمَانِ الْوَحْيِ، فَالسُّكُوتُ عَنْهَا عَلَى الْخُصُوصِ لَيْسَ بِحُكْمٍ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّرْكِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، بَلْ إِذَا عُرِضَتِ النَّوَازِلُ؛ رُوجِعَ بِهَا أُصُولُهَا، فَوُجِدَتْ فِيهَا، وَلَا يَجِدُهَا مَنْ لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ، وَإِنَّمَا يَجِدُهَا الْمُجْتَهِدُونَ الْمَوْصُوفُونَ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْكُتَ الشَّارِعُ عَنِ الْحُكْمِ الْخَاصِّ أَوْ يَتْرُكَ أَمْرًا مَا مِنَ الْأُمُورِ وَمُوجِبُهُ الْمُقْتَضَى لَهُ قَائِمٌ وَسَبَبُهُ فِي زَمَانِ الْوَحْيِ وَفِيمَا بَعْدَهُ مَوْجُودٌ ثَابِتٌ؛ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُحَدَّدْ فِيهِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْحُكْمِ الْعَامِّ فِي أَمْثَالِهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِشَرْعِيَّةِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ الْخَاصِّ مَوْجُودًا، ثُمَّ لَمْ يُشْرَعْ وَلَا نُبِّهَ عَلَى السِّبْطَا؛ كَانَ صَرِيحًا فِي أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى مَا ثَبَتَ هُنَالِكَ بِدْعَةٌ زَائِدَةٌ وَمُخَالِفَةٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، إِذْ فُهِمَ مِنْ قَصْدِهِ الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حَدَّ هُنَالِكَ لَا الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ. وَلِذَلِكَ مِثَالٌ فِيمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي سَمَاعِ أَشْهَبَ وَابْنِ نَافِعٍ هُوَ غَايَةٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَهُ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ الْكَرَاهِيَةُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، وَعَلَيْهِ بَنَى كَلَامَهُ. قَالَ فِي " الْعُتْبِيَّةِ ": " وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ يُحِبُّهُ فَيَسْجُدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شُكْرًا؟ فَقَالَ: لَا يُفْعَلُ هَذَا مِمَّا مَضَى مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، قِيلَ لَهُ: إِنْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)- فِيمَا يَذْكُرُونَ- سَجَدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شُكْرًا لِلَّهِ، أَفَسَمِعْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: مَا سَمِعْتُ ذَلِكَ، وَأَنَا أَرَى أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَهَذَا مِنَ الضَّلَالِ أَنْ يَسْمَعَ الْمَرْءُ الشَّيْءَ فَيَقُولُ: هَذَا لَمْ تَسْمَعْهُ مِنِّي، قَدْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ، أَفَسَمِعْتَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا؟ إِذْ مَا قَدْ كَانَ فِي النَّاسِ وَجَرَى عَلَى أَيْدِيهِمْ؛ سُمِعَ عَنْهُمْ فِيهِ شَيْءٌ، فَعَلَيْكَ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ مَنْ أَمْرِ النَّاسِ الَّذِي قَدْ كَانَ فِيهِمْ، فَهَلْ سَمِعْتَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ سَجَدَ؟ فَهَذَا إِجْمَاعٌ، وَإِذَا جَاءَكَ أَمْرٌ لَا تَعْرِفُهُ؛ فَدَعْهُ... تَمَامَ الرِّوَايَةِ. وَقَدِ احْتَوَتْ عَلَى فَرْضِ سُؤَالٍ وَالْجَوَابُ بِمَا تَقَدَّمَ. وَتَقْرِيرُ السُّؤَالِ أَنْ يُقَالَ فِي الْبِدْعَةِ- مَثَلًا ـ: إِنَّهَا فِعْلٌ سَكَتَ الشَّارِعُ عَنْ حُكْمِهِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَلَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ عَلَى الْخُصُوصِ، فَالْأَصْلُ جَوَازُ فِعْلِهِ كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ تَرْكِهِ، إِذْ هُوَ مَعْنَى الْجَائِزِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ جُمْلِيٌّ، فَأَحْرَى أَنْ يَجُوزَ فِعْلُهُ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْعِهِ أَوْ كَرَاهَتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَلَيْسَ هُنَا مُخَالَفَةٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، وَلَا ثَمَّ دَلِيلٌ خَالَفَهُ هَذَا النَّظَرُ، بَلْ حَقِيقَةُ مَا نَحْنُ فِيهِ أَنَّهُ أَمْرٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ عِنْدَ الشَّارِعِ، وَالسُّكُوتُ عِنْدَ الشَّارِعِ لَا يَقْتَضِي مُخَالَفَةً وَلَا مُوَافَقَةً، وَلَا يُعَيِّنُ الشَّارِعُ قَصْدًا مَا دُونَ ضِدِّهِ وَخِلَافِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَالْعَمَلُ بِهِ لَيْسَ بِمُخَالِفٍ إِذْ لَمْ يَثْبُتُ فِي الشَّرِيعَةِ نَهْيٌ عَنْهُ. وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ: مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَنَّ السُّكُوتَ عَنْ حُكْمِ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ هُنَا- إِذَا وُجِدَ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لَهُ- إِجْمَاعٌ مِنْ كُلِّ سَاكِتٍ عَلَى أَنْ لَا زَائِدَ عَلَى مَا كَانَ، إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَائِقًا شَرْعًا أَوْ سَائِغًا؛ لَفَعَلُوهُ، فَهُمْ كَانُوا أَحَقَّ بِإِدْرَاكِهِ وَالسَّبْقِ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَذَلِكَ إِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْمَصْلَحَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْأَحْدَاثِ مَصْلَحَةٌ أَوْ لَا، وَالثَّانِي لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ، وَالْأَوَّلُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ الْحَادِثَةُ آكَدَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي زَمَانِ التَّكْلِيفِ أَوْ لَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ [آكَدَ] مَعَ كَوْنِ الْمُحْدَثَةِ زِيَادَةَ تَكْلِيفٍ وَنَقْصُهُ عَنِ الْمُكَلَّفِ أَحْرَى بِالْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ؛ لِمَا يُعْلَمُ مِنْ قُصُورِ الْهِمَمِ وَاسْتِيلَاءِ الْكَسَلِ، وَلِأَنَّهُ خِلَافُ بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَنَفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ فِي تَكْلِيفِ الْعِبَادَاتِ؛ لِأَنَّ الْعَادَاتِ أَمْرٌ آخَرُ- كَمَا سَيَأْتِي وَقَدْ مَرَّ مِنْهُ-، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ الظَّاهِرَةُ الْآنَ مُسَاوِيَةً لِلْمَصْلَحَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي زَمَانِ التَّشْرِيعِ أَوْ أَضْعَفَ مِنْهَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَصِيرُ الْأَحْدَاثُ عَبْثًا أَوِ اسْتِدْرَاكًا عَلَى الشَّارِعِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَصْلَحَةَ الْمَوْجُودَةَ فِي زَمَانِ التَّشْرِيعِ؛ إِنْ حَصَلَتْ لِلْأَوَّلِينَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْإِحْدَاثِ؛ [فَالْإِحْدَاثُ] إِذًا عَبَثٌ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنَّ يَحْصُلَ لِلْأَوَّلِينَ دُونَ الْآخَرِينَ، فَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ تَشْرِيعًا بَعْدَ الشَّارِعِ بِسَبَبٍ لِلْآخِرِينَ مَا فَاتَ الْأَوَّلِينَ، فَلَمْ يَكْمُلِ الدِّينُ إِذًا دُونَهَا، وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا الْمَأْخَذِ. وَقَدْ ظَهَرَ مِنَ الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَنَّ تَرْكَ الْأَوَّلِينَ لِأَمْرٍ مَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيِّنُوا فِيهِ وَجْهًا مَعَ احْتِمَالِهِ فِي الْأَدِلَّةِ الْجُمَلِيَّةِ وَوُجُودِ الْمَظَنَّةِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَأَنَّهُ إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى تَرْكِهِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي " شَرْحِ مَسْأَلَةِ الْعُتْبِيَّةِ ": " الْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ مِمَّا شُرِعَ فِي الدِّينِ- يَعْنِي: سُجُودَ الشُّكْرِ- فَرْضًا وَلَا نَفْلًا، إِذْ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا فَعَلَهُ، وَلَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اخْتِيَارِ فِعْلِهِ، وَالشَّرَائِعُ لَا تَثْبُتُ إِلَّا مَنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ ". قَالَ: " وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ، بِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ: صَحِيحٌ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَتَوَفَّرَ الدَّوَاعِي عَلَى تَرْكِ نَقْلِ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعَ الدِّينِ، وَقَدْ أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ ". قَالَ: " وَهَذَا أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ، وَعَلَيْهِ يَأْتِي إِسْقَاطُ الزَّكَاةِ مِنَ الْخُضَرِ وَالْبُقُولِ، مَعَ وُجُودِ الزَّكَاةِ فِيهَا، لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِيمَا سَقْتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ وَالْبَعْلُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ، لِأَنَّا نَزَّلْنَا تَرْكَ نَقْلِ أَخْذِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الزَّكَاةَ مِنْهَا كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ فِي أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهَا، فَكَذَلِكَ نَزَلَ تَرْكُ نَقْلِ السُّجُودِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشُّكْرِ كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ فِي أَنْ لَا سُجُودَ فِيهَا "، ثُمَّ حَكَى خِلَافَ الشَّافِعِيِّ وَالْكَلَامَ عَلَيْهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ تَوْجِيهُ مَالِكٍ لَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا بِدْعَةٌ، لَا تَوْجِيهُ أَنَّهَا بِدْعَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ جَرَى بَعْضُهُمْ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ؛ مِنْ حَيْثُ وُجِدَ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّرْخِيصِ لِلزَّوْجَيْنِ بِإِجَازَةِ التَّحْلِيلِ لِيَتَرَاجَعَا كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُشَرِّعْ ذَلِكَ، مَعَ حِرْصِ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ عَلَى رُجُوعِهَا إِلَيْهِ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ التَّحْلِيلَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لَهَا وَلَا لِغَيْرِهَا. وَهُوَ أَصْلٌ صَحِيحٌ، إِذَا اعْتُبِرَ وَضَحَ بِهِ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الدُّعَاءِ بِآثَارِ الصَّلَوَاتِ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ لَوْ كَانَ صَحِيحًا شَرْعًا أَوْ جَائِزًا؛ لَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِذَلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ. وَقَدْ عَلَّلَ الْمُنْكِرُ هَذَا الْمَوْضِعَ بِعِلَلٍ تَقْتَضِي الْمَشْرُوعِيَّةَ، وَبَنَى عَلَى فَرْضِ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ مَا يُخَالِفُهُ، وَأَنَّ الْأَصْلَ الْجَوَازُ فِي كُلِّ مَسْكُوتٍ عَنْهُ. أَمَّا أَنَّ الْأَصْلَ الْجَوَازُ؛ فَيَمْتَنِعُ؛ لِأَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْعُلَمَاءِ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْمَنْعِ دُونَ الْإِبَاحَةِ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَ مِنَ الْجَوَازِ؟ وَإِنْ سَلَّمَنَا لَهُ مَا قَالَ؛ فَهَلْ هُوَ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَمْ لَا؟ أَمَّا فِي الْعَادِيَّاتِ فَمُسَلَّمٌ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْعَادِيَّاتِ، بَلْ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيمَا فِيهِ تَعْبُدٌ: إِنَّهُ مُخْتَلِفٌ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: هَلْ هُوَ عَلَى الْمَنْعِ أَمْ هُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ؟ بَلْ هُوَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْمَنْعِ؛ لِأَنَّ التَّعَبُدِيَّاتِ إِنَّمَا وَضْعُهَا لِلشَّارِعِ، فَلَا يُقَالُ فِي صَلَاةٍ سَادِسَةٍ- مَثَلًا- إِنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ، فَلِلْمُكَلَّفِ وَضْعُهَا- عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ- لِيَتَعَبَّدَ بِهَا لِلَّهِ؛ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ بِإِطْلَاقٍ، وَهُوَ أَصْلُ كُلِّ مُبْتَدَعٍ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَدْرِكَ عَلَى الشَّارِعِ. وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْعَادِيَّاتِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ مَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ؛ فَلَا يَصِحُّ الْعَمَلُ بِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ، وَتَرْكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ لَهُ عَلَى تَوَالِي أَزْمِنَتِهِمْ؛ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ نَصٌّ فِي التَّرْكِ، وَإِجْمَاعٌ مِنْ كُلِّ مَنْ تَرَكَ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْإِجْمَاعِ كَنَصِّهِ؛ كَمَا أَشَارَ مَالِكٌ فِي كَلَامِهِ. وَأَيْضًا؛ فَمَا يُعَلِّلُ لَهُ لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهِ: وَقَدْ أَتَى الرَّادُّ بِأَوْجَهٍ مِنْهُ: (أَحَدُهَا): أَنَّ الدُّعَاءَ بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ لِيُظْهِرَ وَجْهَ التَّشْرِيعِ فِي الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ بِآثَارِ الصَّلَوَاتِ مَطْلُوبٌ: وَمَا قَالَهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ سُنَّةً بِسَبَبِ الدَّوَامِ وَالْإِظْهَارِ فِي الْجَمَاعَاتِ وَالْمَسَاجِدِ، وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ اتِّفَاقًا مِنَّا وَمِنْهُ، فَانْقَلَبَ إِذًا وَجْهُ التَّشْرِيعِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ إِظْهَارَ التَّشْرِيعِ كَانَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى، فَكَانَتْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ الْمُتَكَلَّمُ فِيهَا أَوْلَى لِلْإِظْهَارِ، وَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ دَلَّ عَلَى تَرْكٍ مَعَ وُجُودِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي، فَلَا يُمْكِنُ بَعْدَ زَمَانِهِ فِي تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ إِلَّا التَّرْكُ. (وَالثَّانِي): أَنَّ الْإِمَامَ يَجْمَعُهُمْ عَلَى الدُّعَاءِ لِيَكُونَ بِاجْتِمَاعِهِمْ أَقْرَبَ إِلَى الْإِجَابَةِ. وَهَذِهِ الْعِلَّةُ كَانَتْ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ أَحَدٌ أَسْرَعَ إِجَابَةً لِدُعَائِهِ مِنْهُ، إِذْ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ بِلَا إِشْكَالٍ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَإِنْ عَظُمَ قَدْرُهُ فِي الدِّينِ؛ فَلَا يَبْلُغُ رُتْبَتَهُ، فَهُوَ كَانَ أَحَقَّ بِأَنْ يَزِيدَهُمُ الدُّعَاءَ لَهُمْ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ زِيَادَةً إِلَى دُعَائِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ قَصْدَ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الدُّعَاءِ لَا يَكُونُ بَعْدَ زَمَانِهِ أَبْلَغَ فِي الْبَرَكَةِ مِنَ اجْتِمَاعٍ يَكُونُ فِيهِ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، فَكَانُوا بِالتَّنْبِيهِ لِهَذِهِ الْمَنَقَبَةِ أَوْلَى. (وَالثَّالِثُ): قَصْدُ التَّعْلِيمِ لِلدُّعَاءِ لِيَأْخُذُوا مِنْ دُعَائِهِ مَا يَدْعُونَ بِهِ لِأَنْفُسِهِمْ لِئَلَّا يَدْعُوَا بِمَا لَا يَجُوزُ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا: وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَا يَنْهَضُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْمُعَلِّمَ الْأَوَّلَ، وَمِنْهُ تَلَقِّينَا أَلْفَاظَ الْأَدْعِيَةِ وَمَعَانِيهَا، وَقَدْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْهَلُ قَدْرَ الرُّبُوبِيَّةِ فَيَقُولُ: رَبَّ الْعِبَادِ مَا لَنَا وَمَا لَكَ *** أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ لَا أَبَا لَكَ وَقَالَ الْآخَرُ: لَاهُمَّ إِنْ كُنْتَ الَّذِي بِعَهْدِي *** وَلَمْ تُغَيِّرْكَ الْأُمُورُ بَعْدِي وَقَالَ الْآخَرُ: أَبْنِيَّ لَيْتِي لَا أُحِبُّكُمْ *** وَجَدَ الْإِلَهُ بِكُمْ كَمَا أَجِدْ وَهِيَ أَلْفَاظٌ يَفْتَقِرُ أَصْحَابُهَا إِلَى التَّعْلِيمِ، وَكَانُوا أَقْرَبَ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ تُعَامِلُ الْأَصْنَامَ مُعَامَلَةَ الرَّبِّ الْوَاحِدِ سُبْحَانَهُ وَلَا تُنَزِّهُهُ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، فَلَمْ يُشْرِعْ لَهُمْ دُعَاءً بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي آثَارِ الصَّلَوَاتِ دَائِمًا لِيُعَلِّمَهُمْ أَوْ يُعِينَهُمْ عَلَى التَّعَلُّمِ إِذَا صَلَّوْا مَعَهُ، بَلْ عَلَّمَ فِي مَجَالِسِ التَّعْلِيمِ، وَدَعَا لِنَفْسِهِ إِثْرَ الصَّلَاةِ حِينَ بَدَا لَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِذْ ذَاكَ إِلَى النَّظَرِ لِلْجَمَاعَةِ، وَهُوَ كَانَ أَوْلَى الْخَلْقِ بِذَلِكَ. (وَالرَّابِعُ): أَنَّ فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى الدُّعَاءِ تَعَاوُنًا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ. وَهَذَا الِاجْتِمَاعُ ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ: {وَتَعَاوِنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، وَكَذَلِكَ فَعَلَ، وَلَوْ كَانَ الِاجْتِمَاعُ لِلدُّعَاءِ إِثْرَ الصَّلَاةِ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ لَكَانَ أَوَّلَ سَابِقٍ إِلَيْهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ أَصْلًا، وَلَا أَحَدٌ بَعْدَهُ، حَتَّى حَدَثَ مَا حَدَثَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ بِرٌّ وَلَا تَقْوَى. (وَالْخَامِسُ): أَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، فَرُبَّمَا لَحَنَ، فَيَكُونُ اللَّحْنُ سَبَبَ عَدَمِ الْإِجَابَةِ، وَحُكِيَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ فِي ذَلِكَ حِكَايَةٌ شِعْرِيَّةٌ لَا فِقْهِيَّةٌ. وَهَذَا الِاجْتِمَاعُ إِلَى اللَّعِبِ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى الْجَدِّ، وَأَقْرَبُ مَا فِيهِ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ لَا يُشْتَرَطُ فِي الدُّعَاءِ أَنْ لَا يُلْحِنَ؛ كَمَا يَشْتَرِطُ الْإِخْلَاصَ؛ وَصِدْقَ التَّوْجِيهِ؛ وَعَزْمَ الْمَسْأَلَةِ.... وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ. وَتَعَلُّمَ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ لِإِصْلَاحِ الْأَلْفَاظِ فِي الدُّعَاءِ- وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ أَعْرَفَ بِهِ- هُوَ كَسَائِرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ الدُّعَاءُ مُسْتَحَبًّا؛ فَالْقِرَاءَةُ وَاجِبَةٌ، وَالْفِقْهُ فِي الصَّلَاةِ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ تَعْلِيمُ الدُّعَاءِ إِثْرَ الصَّلَاةِ مَطْلُوبًا؛ فَتَعْلِيمُ فِقْهِ الصَّلَاةِ آكَدُ، فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ وَظَائِفِ آثَارِ الصَّلَاةِ. فَإِنْ قِيلَ بِمُوجِبِهِ فِي الْمُحَرَّفِ الْمُتَعَارَفِ؛ فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَجْتَثُّ أَصْلَهُ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا أَحَقَّ بِالسَّبْقِ إِلَى فَضْلِهِ؛ لِجَمِيعِ مَا ذَكَرَ فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِيهَا: " أَتَرَى النَّاسَ الْيَوْمَ كَانُوا أَرْغَبَ فِي الْخَيْرِ مِمَّنْ مَضَى؟ "، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُقْتَضَى لِلْإِحْدَاثِ- وَهُوَ الرَّغْبَةُ فِي الْخَيْرِ- كَانَ أَتَمَّ فِي السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَهُمْ لَمْ يَفْعَلُوهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ؛ فَكُلُّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ إِثْرَ الصَّلَاةِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ مِنْهَا جُمْلَةً كَافِيَةً وَلَمْ يُعَلِّمْ مِنْهَا شَيْئًا إِثْرَ الصَّلَاةِ، وَلَا تَرَكَهُمْ دُونَ تَعْلِيمٍ لِيَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْهُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، أَوْ لِيَسْتَغْنُوا بِدُعَائِهِ عَنْ تَعْلِيمِ ذَلِكَ، وَمَعَ أَنَّ الْحَاضِرِينَ لِلدُّعَاءِ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ فِي الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ كَبِيرُ شَيْءٍ، وَإِنْ حَصَلَ فَلِمَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ دُونَ مَنْ بَعُدَ.
ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْمُسْتَنْصِرُ بِالْقِيَاسِ، فَقَالَ: وَإِنْ صَحَّ أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ؛ فَقَدَ عَمِلَ السَّلَفُ بِمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِمَّا هُوَ خَيْرٌ. ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: قَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الْفُجُورِ، فَكَذَلِكَ تَحْدُثُ لَهُمْ مُرَغِّبَاتٌ فِي الْخَيْرِ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الْفُتُورِ. وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ غَيْرُ جَارٍ عَلَى الْأُصُولِ: أَمَّا أَوَّلًا: فَإِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مَالِكٌ فِي مَسْأَلَةِ الْعُتْبِيَّةِ، فَذَلِكَ مِنْ بَابِ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ. وَأَمَا ثَانِيًا: فَإِنَّهُ قِيَاسٌ عَلَى نَصٍّ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ مِنْ طَرِيقٍ مَرْضِيٍّ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَمَا ثَالِثًا: فَإِنَّ كَلَامَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَرْعٌ اجْتِهَادِيٌّ جَاءَ عَنْ رَجُلٍ مُجْتَهِدٍ يُمْكِنُ أَنْ يُخْطِئَ فِيهِ كَمَا يُمْكِنُ أَنْ يُصِيبَ، وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ الْأَصْلِ أَنْ يَأْتِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ، وَهَذَا لَيْسَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَأَمَا رَابِعًا: فَإِنَّهُ قِيَاسُ بِغَيْرِ مَعْنًى جَامِعٍ، أَوْ بِمَعْنَى جَامِعٍ غَيْرِ طَرْدِيٍّ، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِيهِ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَالْبِدَعِ. وَقَوْلُهُ: " إِنَّ السَّلَفَ عَمِلُوا بِمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ مَنْ قَبْلَهُمْ "؛ حَاشَ لِلَّهِ أَنَّ يَكُونُوا مِمَّنْ يَدْخُلُ تَحْتَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ. وَقَوْلُهُ: " مِمَّا هُوَ خَيْرٌ "؛ أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّلَفِ فَمَا عَمِلُوا خَيْرٌ، وَأَمَّا فَرْعُهُ الْمَقِيسُ [عَلَيْهِ]؛ فَكَوْنُهُ خَيْرًا دَعْوَى؛ لِأَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ خَيْرًا أَوْ شَرًّا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالشَّرْعِ، وَأَمَّا الْعَقْلُ؛ فَبِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ، فَلْيَثْبُتْ أَوَّلًا لِأَنَّ الدُّعَاءَ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ خَيْرٌ شَرْعًا. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى قَوْلِهِ: " تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ "؛ فَمِمَّا تَقَدَّمَ فِيهِ أَمْرٌ آخَرُ، وَهُوَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ إِحْدَاثَ الْعِبَادَاتِ جَائِزٌ قِيَاسًا عَلَى قَوْلِ عُمَرَ، وَإِنَّمَا كَلَامُ عُمَرَ- بَعْدَ تَسْلِيمِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ- فِي مَعْنًى عَادِيٍّ يَخْتَلِفُ فِيهِ مَنَاطُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ فِيمَا تَقَدَّمَ؛ كَتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ، أَوِ الظِّنَّةِ فِي تَوْجِيهِ الْأَيْمَانِ؛ دُونَ مُجَرَّدِ الدَّعَاوَى. فَيَقُولُ: إِنِ الْأَوَّلِينَ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الْأَحْكَامِ؛ لِصِحَّةِ الْأَمَانَةِ وَالدِّيَانَةِ وَالْفَضِيلَةِ، فَلَمَّا حَدَثَتْ أَضْدَادُهَا؛ اخْتَلَفَ الْمَنَاطُ، فَوَجَبَ اخْتِلَافُ الْحُكْمِ، وَهُوَ حُكْمٌ رَادِعٌ أَهْلَ الْبَاطِلِ عَنْ بَاطِلِهِمْ. فَأَثَرُ هَذَا الْمَعْنَى ظَاهِرٌ مُنَاسِبٌ؛ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسَ إِذَا وَقَعَ فِيهِمُ الْفُتُورُ عَنِ الْفَرَائِضِ فَضْلًا عَنِ النَّوَافِلِ- وَهِيَ مَا هِيَ مِنَ الْقِلَّةِ وَالسُّهُولَةِ-؛ فَمَا ظَنُّكَ بِهِمْ إِذَا زِيدَ عَلَيْهِمْ أَشْيَاءُ أُخَرُ يَرْغَبُونَ فِيهَا وَيُرَخِّصُونَ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا، فَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَظَائِفَ تَتَكَاثَرُ، حَتَّى يُؤَدِّيَ إِلَى أَعْظَمِ مِنَ الْكَسَلِ الْأَوَّلِ، وَإِلَى تَرْكِ الْجَمِيعِ، فَإِنْ حَدَثَ لِلْعَامِلِ بِالْبِدْعَةِ هُوَ فِي بِدْعَتِهِ أَوْ لِمَنْ شَايَعَهُ فِيهَا؛ فَلَا بُدَّ مِنْ كَسَلِهِ مِمَّا هُوَ أَوْلَى. فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ سَاهِرَ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ الْمُحْدَثَةِ لَا يَأْتِيهِ الصُّبْحُ إِلَّا وَهُوَ نَائِمٌ أَوْ فِي غَايَةِ الْكَسَلِ، فَيُخِلُّ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُحْدَثَاتِ، فَصَارَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عَائِدَةً عَلَى مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهَا بِالْإِبْطَالِ أَوِ الْإِخْلَالِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ مَا مِنْ بِدْعَةٍ تُحْدَثُ إِلَّا وَيَمُوتُ مِنَ السُّنَّةِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ هَذَا الْقِيَاسَ مُخَالِفٌ لِأَصْلٍ شَرْعِيٍّ- وَهُوَ طَلَبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّهُولَةَ وَالرِّفْقَ وَالتَّيْسِيرَ وَعَدَمَ التَّشْدِيدِ-، وَزِيَادَةُ وَظِيفَةٍ لَمْ تُشْرَعْ فَتَظْهَرُ وَيُعْمَلُ بِهَا دَائِمًا فِي مَوَاطِنِ السُّنَنِ؛ فَهُوَ تَشْدِيدٌ بِلَا شَكٍّ. وَإِنْ سَلَّمْنَا مَا قَالَ؛ فَقَدْ وَجَدَ كُلُّ مُبْتَدَعٍ مِنَ الْعَامَّةِ السَّبِيلَ إِلَى إِحْدَاثِ الْبِدَعِ، وَأَخْذِ هَذَا الْكَلَامِ بِيَدِهِ حُجَّةً وَبُرْهَانًا عَلَى صِحَّةِ مَا يُحْدِثُهُ كَائِنًا مَا كَانَ، وَهُوَ مَرْمًى بَعِيدٌ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ إِثْرَ الصَّلَاةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَنُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ أَنْوَاعًا مِنَ الْكَلَامِ، وَلَيْسَ [هَذَا] مَحَلَّ النِّزَاعِ، بَلْ جَعَلَ الْأَدِلَّةَ شَامِلَةً لِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ. وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: " وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ وَعَمَلُ النَّاسِ وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى؛ كَمَا قَدْ ظَهَرَ "، قَالَ: " وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ الْإِمَامَ فِي الصَّلَوَاتِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَخُصَّ نَفْسَهُ بِتِلْكَ الدَّعَوَاتِ، إِذْ قَدْ جَاءَ مِنْ سُنَّتِهِ: لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَؤُمَّ قَوْمًا إِلَّا بِإِذْنِهِمْ، وَلَا يَخُصَّ نَفْسَهُ بِدَعْوَةٍ دُونَهُمْ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ خَانَهُمْ. فَتَأَمَّلُوا يَا أُولِي الْأَلْبَابِ! فَإِنَّ عَامَّةَ النُّصُوصِ فِيمَا سُمِعَ مِنْ أَدْعِيَتِهِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ إِنَّمَا كَانَ دُعَاءً لِنَفْسِهِ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَقُولُ فِيهِ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَخُصَّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ دُونَ الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ، اللَّهَ نَسْأَلُ التَّوْفِيقَ. وَإِنَّمَا حَمَلَ النَّاسُ الْحَدِيثَ عَلَى دُعَاءِ الْإِمَامِ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ مِنَ السُّجُودِ وَغَيْرِهِ، لَا فِيمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ هَذَا الْمُتَأَوِّلُ، وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ عِنْدَ مَالِكٍ؛أَجَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ دُونَ الْمَأْمُومِينَ، ذَكَرَهُ فِي " النَّوَادِرِ ". وَلَمَّا اعْتَرَضَهُ كَلَامُ الْعُلَمَاءِ وَكَلَامُ السَّلَفِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ؛ أَخَذَ يَتَأَوَّلُ وَيُوَجِّهُ كَلَامَهُمْ عَلَى طَرِيقَتِهِ الْمُرْتَبِكَةِ، وَوَقَعَ لَهُ فِي [ذَلِكَ] كَلَامٌ عَلَى غَيْرِ تَأَمُّلٍ لَا يَسْلَمُ ظَاهِرُهُ مِنَ التَّنَاقُضِ وَالتَّدَافُعِ لِوُضُوحِ أَمْرِهِ، وَكَذَلِكَ فِي تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي نَقَلَهَا، لَكِنْ تَرَكْتُ هُنَا اسْتِيفَاءَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا لِطُولِهِ، وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ كُلُّ عَمَلٍ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ: أَهُوَ بِدْعَةٌ فَيُنْهَى عَنْهُ؟ أَمْ غَيْرُ بِدْعَةٍ فَيُعْمَلُ بِهِ؟ فَإِنَّا إِذَا اخْتَبَرْنَاهُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؛ وَجَدْنَاهُ مِنَ الْمُشْتَبِهَاتِ الَّتِي قَدْ نُدِبْنَا إِلَى تَرْكِهَا؛ حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ، وَالْمَحْظُورُ هُنَا هُوَ الْعَمَلُ بِالْبِدْعَةِ، فَإِذَا؛ الْعَامِلُ بِهِ لَا يَقْطَعُ أَنَّهُ عَمِلَ بِبِدْعَةٍ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ أَنَّهُ عَمِلَ بِسُنَّةٍ، فَصَارَ مِنْ جِهَةِ هَذَا التَّرَدُّدِ غَيْرَ عَامِلٍ بِبِدْعَةٍ حَقِيقِيَّةٍ، وَلَا يُقَالُ أَيْضًا: إِنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْعَمَلِ بِهَا جُمْلَةً. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ الْوَارِدَ فِي الْمُشْتَبِهَاتِ إِنَّمَا هُوَ حِمَايَةٌ أَنْ يَقَعَ فِي ذَلِكَ الْمَمْنُوعِ الْوَاقِعِ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ: فَإِذَا اخْتَلَطَتِ الْمَيْتَةُ بِالذَّكِيَّةِ؛ حُكْمُهُ نَهَيْنَاهُ عَنِ الْإِقْدَامِ، فَإِنْ أَقْدَمَ؛ أَمْكَنَ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ آكِلًا لِلْمَيْتَةِ فِي الِاشْتِبَاهِ، فَالنَّهْيُ الْأَخَفُّ إِذًا مُنْصَرِفٌ نَحْوَ الْمَيْتَةِ فِي الِاشْتِبَاهِ؛ كَمَا انْصَرَفَ إِلَيْهَا النَّهْيُ الْأَشَدُّ فِي التَّحَقُّقِ. وَكَذَلِكَ اخْتِلَاطُ الرَّضِيعَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ؛ النَّهْيُ فِي الِاشْتِبَاهِ مُنْصَرِفٌ إِلَى الرَّضِيعَةِ؛ كَمَا انْصَرَفَ إِلَيْهَا فِي التَّحَقُّقِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُشْتَبِهَاتِ؛ إِنَّمَا يَنْصَرِفُ نَهْيُ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمُشْتَبَهِ إِلَى خُصُوصِ الْمَمْنُوعِ الْمُشْتَبَهِ. فَإِذًا؛ الْفِعْلُ الدَّائِرُ بَيْنَ كَوْنِهِ سُنَّةً أَوْ بِدْعَةً؛ إِذَا نُهِيَ عَنْهُ فِي بَابِ الِاشْتِبَاهِ؛ نُهِيَ عَنِ الْبِدْعَةِ فِي الْجُمْلَةِ، فَمَنْ أَقْدَمَ عَنِ الْعَمَلِ، فَقَدْ أَقْدَمَ عَلَى مَنْهِيٍّ عَنْهُ فِي بَابِ الْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ بِدْعَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَصَارَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالْعَامِلِ بِالْبِدْعَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْبِدْعَةَ الْإِضَافِيَّةَ هِيَ الْوَاقِعَةُ ذَاتُ وَجْهَيْنِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقِسْمَ مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ. وَلِهَذَا النَّوْعِ أَمْثِلَةٌ: (أَحَدُهُمَا): إِذَا تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِي أَنَّ الْعَمَلَ الْفُلَانِيَّ مَشْرُوعٌ يُتَعَبَّدُ بِهِ أَوْ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَا يُتَعَبَّدُ بِهِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ جَمْعٌ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، أَوْ إِسْقَاطُ أَحَدِهِمَا بِنَسْخٍ أَوْ تَرْجِيحٍ أَوْ غَيْرِهِمَا؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ فَرْضَهُ التَّوَقُّفَ، فَلَوْ عَمِلَ بِمُقْتَضَى دَلِيلِ التَّشْرِيعِ مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ؛ لَكَانَ عَامِلًا بِمُتَشَابِهٍ؛ لِإِمْكَانِ صِحَّةِ الدَّلِيلِ بِعَدَمِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، فَالصَّوَابُ الْوُقُوفُ عَنِ الْحُكْمِ رَأْسًا، وَهُوَ الْفَرْضُ فِي حَقِّهِ. (وَالثَّانِي): إِذَا تَعَارَضَتِ الْأَقْوَالُ عَلَى الْمُقَلِّدِ فِي الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَكُونُ الْعَمَلُ بِدْعَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِبِدْعَةٍ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الْأَرْجَحُ مِنَ الْعَالِمِينَ بِأَعْلَمِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا؛ فَحَقُّهُ الْوُقُوفُ وَالسُّؤَالُ عَنْهُمَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْأَرْجَحُ، فَيَمِيلُ إِلَى تَقْلِيدِهِ دُونَ الْآخَرِ، فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى تَقْلِيدِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ؛ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُجْتَهِدِ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الْعَمَلِ بِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، فَالْمِثَالَانِ فِي الْمَعْنَى وَاحِدٌ. (وَالثَّالِثُ): أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ [كَانُوا] يَتَبَرَّكُونَ بِأَشْيَاءَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَاجِرَةِ، فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ، فَتَوَضَّأَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ... الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: " كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ ". وَعَنِ الْمِسْوَرِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) فِي حَدِيثِ الْحُدَيْبِيَةِ: وَمَا انْتَخَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً؛ إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَّكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ. وَخَرَّجَ غَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي التَّبَرُّكِ بِشِعْرِهِ وَثَوْبِهِ وَغَيْرِهِمَا، حَتَّى أَنَّهُ مَسَّ بِإِصْبَعِهِ أَحَدَهُمْ بِيَدِهِ، فَلَمْ يَحْلِقْ ذَلِكَ الشَّعْرَ الَّذِي مَسَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى مَاتَ. وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ، حَتَّى شَرِبَ دَمَ حِجَامَتِهِ... إِلَى أَشْيَاءَ كَهَذَا كَثِيرَةٍ. فَالظَّاهِرُ فِي مِثْلِ هَذَا النَّوْعِ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي حَقٍّ مَنْ ثَبَتَتْ وِلَايَتُهُ وَاتِّبَاعُهُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ يُتَبَرَّكَ بِفَضْلِ وَضُوئِهِ، وَيُتَدَلَّكَ بِنُخَامَتِهِ، وَيُسْتَشْفَى بِآثَارِهِ كُلِّهَا، وَيُرْجَى نَحْوُ مِمَّا كَانَ فِي آثَارِ الْمَتْبُوعِ الْأَعْظَمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِلَّا أَنَّهُ عَارَضَنَا فِي ذَلِكَ أَصْلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي مَتْنِهِ، مُشْكِلٌ فِي تَنْزِيلِهِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يَقَعْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ خَلَّفَهُ، إِذْ لَمْ يَتْرُكِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ فِي الْأُمَّةِ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، فَهُوَ كَانَ خَلِيفَتَهُ، وَلَمْ يُفْعَلْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)، وَهُوَ كَانَ فِي الْأُمَّةِ بَعْدَهُ، ثُمَّ كَذَلِكَ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ، ثُمَّ سَائِرُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ لَا أَحَدَ أَفْضَلَ مِنْهُمْ فِي الْأُمَّةِ، ثُمَّ لَمْ يَثْبُتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ مَعْرُوفٍ أَنَّ مُتَبَرِّكًا تَبَرَّكَ بِهِ عَلَى أَحَدٍ تِلْكَ الْوُجُوهِ أَوْ نَحْوِهَا، بَلِ اقْتَصَرُوا فِيهِمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِالْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالسِّيَرِ الَّتِي اتَّبَعُوا فِيهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ إِذًا إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى تَرْكِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا. وَبَقِيَ النَّظَرُ فِي وَجْهِ تَرْكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا): أَنْ يَعْتَقِدُوا فِيهِ الِاخْتِصَاصَ، وَأَنَّ مَرْتَبَةَ النُّبُوَّةِ يَسَعُ فِيهَا ذَلِكَ كُلُّهُ؛ لِلْقَطْعِ بِوُجُودِ مَا الْتَمَسُوا مِنَ الْبَرْكَةِ وَالْخَيْرِ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ نُورًا كُلُّهُ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، فَمَنِ الْتَمَسَ مِنْهُ نُورًا؛ وَجَدَهُ عَلَى أَيِّ جِهَةٍ الْتَمَسَهُ؛ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ؛ فَإِنَّهُ- وَإِنْ حَصَلَ لَهُ مِنْ نُورِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ- لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَهُ عَلَى حَالٍ تُوَازِيهِ فِي مَرْتَبَتِهِ، وَلَا يُقَارِبُهُ فَصَارَ هَذَا النَّوْعُ مُخْتَصًّا بِهِ؛ كَاخْتِصَاصِهِ بِنِكَاحِ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَإِحْلَالِ بُضْعِ الْوَاهِبَةِ نَفْسَهَا لَهُ، وَعَدَمِ وُجُوبِ الْقَسَمِ عَلَى الزَّوْجَاتِ... وَشِبْهِ ذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ؛ لَا يَصِحُّ لِمَنْ بَعْدَهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي التَّبَرُّكِ عَلَى أَحَدِ تِلْكَ الْوُجُوهِ وَنَحْوِهَا، وَمَنِ اقْتَدَى بِهِ كَانَ اقْتِدَاؤُهُ بِدْعَةً، كَمَا كَانَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بِدْعَةً. (الثَّانِي): أَنْ لَا يَعْتَقِدُوا الِاخْتِصَاصَ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوا ذَلِكَ مِنْ بَابِ الذَّرَائِعِ؛ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ سُنَّةً؛ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي اتِّبَاعِ الْآثَارِ وَالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّ الْعَامَّةَ لَا تَقْتَصِرُ فِي ذَلِكَ عَلَى حَدٍّ، بَلْ تَتَجَاوَزُ فِيهِ الْحُدُودَ، وَتُبَالِغُ بِجَهْلِهَا فِي الْتِمَاسِ الْبَرَكَةِ، حَتَّى يُدَاخِلَهَا لِلْمُتَبَرَّكِ بِهِ تَعْظِيمٌ يَخْرُجُ بِهِ عَنِ الْحَدِّ، فَرُبَّمَا اعْتَقَدَ فِي الْمُتَبَرَّكِ بِهِ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَهَذَا التَّبَرُّكُ هُوَ أَصْلُ الْعِبَادَةِ، وَلِأَجَلِهِ قَطَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الشَّجَرَةَ الَّتِي بُويِعَ تَحْتَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ هُوَ كَانَ أَصْلَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فِي الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ- حَسْبَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ السِّيَرِ-، فَخَافَ عُمَرُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنْ يَتَمَادَى الْحَالُ فِي الصَّلَاةِ إِلَى تِلْكَ الشَّجَرَةِ حَتَّى تُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَكَذَلِكَ يَتَّفِقُ عِنْدَ التَّوَغُّلِ فِي التَّعْظِيمِ. وَلَقَدْ حَكَى الْفَرْغَانِيُّ مُذَيِّلُ " تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ " عَنِ الْحَلَّاجِ: أَنَّ أَصْحَابَهُ بَالَغُوا فِي التَّبَرُّكِ بِهِ، حَتَّى كَانُوا يَتَمَسَّحُونَ بِبَوْلِهِ، وَيَتَبَخَّرُونَ بِعَذْرَتِهِ، حَتَّى ادَّعَوْا فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ؛ وَإِنْ ظَهَرَ لَهَا فِي الظَّاهِرِ آثَارٌ؛ فَقَدْ يَخْفَى أَمْرُهَا؛ لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى أَمْرٍ بَاطِنٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَرُبَّمَا ادُّعِيَتِ الْوِلَايَةُ لِمَنْ لَيْسَ بِوَلِيٍّ، أَوِ ادَّعَاهَا هُوَ لِنَفْسِهِ، أَوْ أَظْهَرَ خَارِقَةً مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ هِيَ مِنْ بَابِ الشَّعْوَذَةِ لَا مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ، أَوْ مِنْ بَابِ السِّحْرِ، أَوِ الْخَوَاصِّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَالْجُمْهُورُ لَا يَعْرِفُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْكَرَامَةِ وَالسِّحْرِ، فَيُعَظِّمُونَ مَنْ لَيْسَ بِعَظِيمٍ، وَيَقْتَدُونَ بِمَنْ لَا قُدْوَةَ فِيهِ، وَهُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ، فَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِمَا تَقَدَّمَ- وَإِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ-؛ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الدِّينِ. وَقَدْ يَظْهَرُ بِأَوَّلِ وَهْلَةٍ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ الثَّانِيَ أَرْجَحُ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ الْعِلْمِيَّةِ: أَنَّ كُلَّ مَزِيَّةٍ أُعْطِيَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّ لِأُمَّتِهِ أُنْمُوذَجًا مِنْهَا، مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. إِلَّا أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ رَاجِحٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ إِطْبَاقُهُمْ عَلَى التَّرْكِ، إِذْ لَوْ كَانَ اعْتِقَادُهُمُ التَّشْرِيعَ؛ لَعَمِلَ بَعْضُهُمْ بَعْدَهُ، أَوْ عَمِلُوا بِهِ- وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ: إِمَّا وُقُوفًا مَعَ أَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَإِمَّا بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلِامْتِنَاعِ. وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ فِي " جَامِعِهِ " مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ؛قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ أَوْ تَنَخَّمَ؛ ابْتَدَرَ مَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَضُوءَهُ وَنُخَامَتَهُ، فَشَرِبُوهُ، وَمَسَحُوا بِهِ جُلُودَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ؛ سَأَلَهُمْ: " لِمَ تَفْعَلُونَ هَذَا؟ "، قَالُوا: نَلْتَمِسُ الطُّهُورَ وَالْبَرَكَةَ بِذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؛ فَلْيَصْدُقِ الْحَدِيثَ، وَلْيُؤَدِّ الْأَمَانَةَ، وَلَا يُؤْذِ جَارَهُ. فَإِنْ صَحَّ هَذَا النَّقْلُ؛ فَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْأَوْلَى تَرْكَهُ، وَأَنْ يَتَحَرَّى مَا هُوَ الْآكَدُ وَالْأَحْرَى مِنْ وَظَائِفِ التَّكْلِيفِ، وَلَا يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ. وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الرُّقْيَةِ وَمَا يَتْبَعُهَا، أَوْ دُعَاءِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ سَيَأْتِي بِحَوْلِ اللَّهِ. فَقَدْ صَارَتِ الْمَسْأَلَةُ مَنْ أَصْلِهَا دَائِرَةً بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَنْ تَكُونَ مَشْرُوعَةً، وَأَنْ تَكُونَ بِدْعَةً، فَدَخَلَتْ تَحْتَ حُكْمِ الْمُتَشَابِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنَ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ الَّتِي تَقْرُبُ مِنَ الْحَقِيقِيَّةِ: أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْعِبَادَةِ مَشْرُوعًا؛ إِلَّا أَنَّهَا تُخْرَجُ عَنْ أَصْلِ شَرْعِيَّتِهَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ مِنَ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ تَوَهُّمًا أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِهَا تَحْتَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَيَّدَ إِطْلَاقُهَا بِالرَّأْيِ، أَوْ يُطْلَقَ تَقْيِيدُهَا، وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَتَخْرُجُ عَنْ حَدِّهَا الَّذِي حُدَّ لَهَا. وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الصَّوْمَ فِي الْجُمْلَةِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ؛ لَمْ يَخُصَّهُ الشَّارِعُ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَلَا حَدٍّ فِيهِ زَمَانًا دُونَ زَمَانٍ، مَا عَدَّا مَا نُهِيَ عَنْ صِيَامِهِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ كَالْعِيدَيْنِ، وَنُدِبَ إِلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ كَعَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ بِقَوْلٍ، فَإِذَا خَصَّ مِنْهُ يَوْمًا مِنَ الْجُمْعَةِ بِعَيْنِهِ، أَوْ أَيَّامًا مِنَ الشَّهْرِ بِأَعْيَانِهَا- لَا مِنْ جِهَةِ مَا عَيَّنَهُ الشَّارِعُ-؛ فَإِنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ بِأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ؛ كَيَوْمِ الْأَرْبِعَاءَ مَثَلًا فِي الْجُمْعَةِ، وَالسَّابِعِ وَالثَّامِنِ فِي الشَّهْرِ... وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ بِحَيْثُ لَا يَقْصِدُ بِذَلِكَ وَجْهًا بِعَيْنِهِ مِمَّا لَا يَنْثَنِي عَنْهُ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ: لِمَ خَصَّصَتْ تِلْكَ الْأَيَّامَ دُونَ غَيْرِهَا؟ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِذَلِكَ حُجَّةٌ غَيْرَ التَّصْمِيمِ، أَوْ يَقُولُ: إِنَّ الشَّيْخَ الْفُلَانِيَّ مَاتَ فِيهِ... أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ رَأْيٌ مَحْضٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، ضَاهَى بِهِ تَخْصِيصَ الشَّارِعِ أَيَّامًا بِأَعْيَانِهَا دُونَ غَيْرِهَا، فَصَارَ التَّخْصِيصُ مِنَ الْمُكَلَّفِ بِدْعَةً، إِذْ هِيَ تَشْرِيعٌ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ. وَمِنْ ذَلِكَ تَخْصِيصُ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ لَهَا تَخْصِيصًا؛ كَتَخْصِيصِ الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ بِكَذَا وَكَذَا مِنَ الرَّكَعَاتِ، أَوْ بِصَدَقَةِ كَذَا وَكَذَا، أَوِ اللَّيْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ بِقِيَامِ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةٍ، أَوْ بِخَتْمِ الْقُرْآنِ فِيهَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ التَّخْصِيصَ وَالْعَمَلَ بِهِ؛ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِحُكْمِ الْوِفَاقِ، أَوْ بِقَصْدٍ يَقْصِدُ مِثْلَهُ أَهْلُ الْعَقْلِ وَالْفَرَاغِ وَالنَّشَاطِ؛ كَانَ تَشْرِيعًا زَائِدًا. وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي أَنْ يَقُولَ: إِنَّ هَذَا الزَّمَانَ ثَبَتَ فَضْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَيَحْسُنُ فِيهِ إِيقَاعُ الْعِبَادَاتِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا الْحَسَنُ؛ هَلْ ثَبَتَ لَهُ أَصْلٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ ثَبَتَ فَمَسْأَلَتُنَا؛ كَمَا ثَبَتَ الْفَضْلُ فِي قِيَامِ لَيَالِي رَمَضَانَ، وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصِيَامِ الْاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ؛ فَمَا مُسْتَنَدُكَ فِيهِ وَالْعَقْلُ لَا يُحَسِّنُ وَلَا يُقَبِّحُ، وَلَا شَرْعَ يُسْتَنَدُ إِلَيْهِ؟ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ ابْتِدَاعٌ فِي التَّخْصِيصِ؛ كَإِحْدَاثِ الْخُطَبِ، وَتَحَرِّي خَتْمِ الْقُرْآنِ فِي بَعْضِ لَيَالِي رَمَضَانَ. وَمِنْ ذَلِكَ التَّحَدُّثُ مَعَ الْعَوَامِّ بِمَا لَا تَفْهَمُهُ وَلَا تَعْقِلُ مَغْزَاهُ؛ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ وَضْعِ الْحِكْمَةِ غَيْرَ مَوْضِعِهَا، فَسَامِعُهَا؛ إِمَّا أَنْ يَفْهَمَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، وَهُوَ الْغَالِبُ، وَهُوَ فِتْنَةٌ تُؤَدِّي إِلَى التَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ، وَإِلَى الْعَمَلِ بِالْبَاطِلِ، وَإِمَّا لَا يَفْهَمُ مِنْهَا شَيْئًا، وَهُوَ أَسْلَمُ، وَلَكِنَّ الْمُحْدِثَ لَمْ يُعْطِ الْحِكْمَةَ حَقَّهَا مِنَ الصَّوْنِ، بَلْ صَارَ التَّحَدُّثُ بِهَا كَالْعَابِثِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ، ثُمَّ إِنْ أَلْقَاهَا لِمَنْ لَا يَعْقِلُهَا فِي مَعْرَضِ الِانْتِفَاعِ بَعْدَ تَعَقُّلِهَا؛ كَانَ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ. وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ، فَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْأُغْلُوطَاتِ، قَالُوا: وَهِيَ صِعَابُ الْمَسَائِلِ، أَوْ شِرَارُ الْمَسَائِلِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ- أَوْ غَيْرِهِ ـ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِنْ غَرَائِبِ الْعِلْمِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " مَا صَنَعْتَ فِي رَأْسِ الْعِلْمِ؟ " قَالَ: وَمَا رَأْسُ الْعِلْمِ؟ قَالَ: " هَلْ عَرَفْتَ الرَّبَّ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا صَنَعْتَ فِي حَقِّهِ؟ قَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبْ فَأَحْكِمْ مَا هُنَالِكَ، ثُمَّ تَعَالَ أُعَلِّمْكَ مِنْ غَرَائِبِ الْعِلْمِ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، لَا تَعَلَّمِ الْغَرَائِبُ إِلَّا بَعْدَ إِحْكَامِ الْأُصُولِ، وَإِلَّا دَخَلَتِ الْفِتْنَةُ. وَقَدْ قَالُوا فِي الْعَالِمِ الرَّبَّانِيِّ: إِنَّهُ الَّذِي يُرَبِّي بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ شَاهِدُهَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَشْهُورٌ، وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ، فَقَالَ: بَابُ: مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لَا يَفْهَمُوا. ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَالَ: حَدِّثُوا (النَّاسَ) بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ مُعَاذٍ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ إِلَّا عِنْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِمَا خَشِيَ مِنْ تَنْزِيلِهِ غَيْرَ مَنْزِلَتِهِ، وَعَلَّمَهُ مُعَاذًا لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ. وَفِي مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)؛ قَالَ: " مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ؛ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً ". قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَذَلِكَ أَنْ يَتَأَوَّلُوهُ غَيْرَ تَأْوِيلِهِ، وَيَحْمِلُوهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ. وَخَرَّجَ شُعْبَةُ عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ الْحَضْرَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ عَلَيْكَ فِي عِلْمِكَ حَقًّا كَمَا أَنَّ عَلَيْكَ فِي مَالِكِ حَقًّا، لَا تُحَدِّثْ بِالْعِلْمِ غَيْرَ أَهْلِهِ فَتَجْهَلُ، وَلَا تَمْنَعِ الْعِلْمَ أَهْلَهُ فَتَأْثَمُ، وَلَا تُحَدِّثْ بِالْحِكْمَةِ عِنْدَ السُّفَهَاءِ فَيُكَذِّبُوكَ، وَلَا تُحَدِّثْ بِالْبَاطِلِ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ فَيَمْقَتُوكَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الْمَعْنَى فِي كُتُبِهِمْ، وَبَسَطُوهُ بَسْطًا شَافِيًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَإِنَّمَا نَبَّهَنَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ لَا يُقَدِّرُ قَدَرَ هَذَا الْمَوْضِعِ يَزِلُّ فِيهِ فَيُحَدِّثُ النَّاسَ بِمَا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الشَّرْعِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ فِي فَضْلِ السُّنَّةِ الَّتِي يَكُونُ الْعَمَلُ بِهَا ذَرِيعَةً إِلَى الْبِدْعَةِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا عُمِلَ بِهَا وَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَمِنْهُ تَكْرَارُ السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ فِي التِّلَاوَةِ أَوْ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ؛ فَإِنَّ التِّلَاوَةَ لَمْ تُشْرَعْ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَلَا أَنْ يُخَصَّ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ؛ لَا فِي صَلَاةٍ، وَلَا فِي غَيْرِهَا، فَصَارَ الْمُخَصِّصُ لَهَا عَامِلًا بِرَأْيِهِ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ. وَخَرَّجَ ابْنُ وَضَّاحٍ عَنْ مُصْعَبٍ، قَالَ: سُئِلَ سُفْيَانُ عَنْ رَجُلٍ يُكْثِرُ قِرَاءَةَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؛ لَا يَقْرَأُ غَيْرَهَا كَمَا يَقْرَؤُهَا؟ فَكَرِهَهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَنْتُمْ مُتَّبِعُونَ، فَاتَّبِعُوا الْأَوَّلِينَ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْهُمْ نَحْوُ هَذَا، وَإِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِيُقْرَأَ، وَلَا يُخَصُّ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ. وَخَرَّجَ أَيْضًا- وَهُوَ فِي " الْعُتْبِيَّةِ " مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ- عَنْ مَالِكٍ (رَحِمَهُ اللَّهُ) أَنَّهُ سُئِلَ عَلَى قِرَاءَةٍ} قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، مِرَارًا فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَقَالَ: هَذَا مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي أَحْدَثُوا. وَمَحْمَلُ هَذَا عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ مِنْ بَابِ الذَّرِيعَةِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَأْتِ مِثْلُهُ عَنِ السَّلَفِ، وَإِنْ كَانَتْ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ- كَمَا فِي الصَّحِيحِ- وَهُوَ صَحِيحٌ؛ فَتَأَمَّلْهُ فِي الشَّرْحِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ التَّكْرَارَ كَذَلِكَ عَمَلٌ مُحْدَثٌ فِي مَشْرُوعِ الْأَصْلِ؛ بِنَاءً عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِيهِ. وَمِنْ ذَلِكَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي الْمَسْجِدِ لِلدُّعَاءِ تَشَبُّهًا بِأَهْلِ عَرَفَةَ. وَنَقْلُ الْأَذَانِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ مِنَ الْمَنَارِ وَجَعْلُهُ قُدَّامَ الْإِمَامِ. فَفِي " سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ "، وَسُئِلَ عَنِ الْقُرَى الَّتِي لَا يَكُونُ فِيهَا إِمَامٌ إِذَا صَلَّى بِهِمْ رَجُلٌ مِنْهُمُ الْجُمْعَةَ: أَيُخْطَبُ بِهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ! لَا تَكُونُ الْجُمْعَةُ إِلَّا بِخِطْبَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: أَفَيُؤَذِّنُ قُدَّامَهُ؟ قَالَ: لَا، وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِفِعْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: الْأَذَانُ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ فِي الْجُمْعَةِ حُكْمُهُ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ مُحْدَثٌ. قَالَ: وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَإِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَخَرَجَ؛ رَقَى الْمِنْبَرَ، فَإِذَا رَآهُ الْمُؤَذِّنُونُ- وَكَانُوا ثَلَاثَةً-؛ قَامُوا، وَأَذَّنُوا فِي الْمَشْرَفَةِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ كَمَا يُؤَذَّنُ فِي غَيْرِ الْجُمْعَةِ، فَإِذَا فَرَغُوا؛ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ، ثُمَّ تَلَاهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)، فَزَادَهُ عُثْمَانُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)- لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ- أَذَانًا بِالزَّوْرَاءِ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، يُؤْذَنُ النَّاسُ فِيهِ بِذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ حَضَرَتْ، وَتَرَكَ الْأَذَانَ فِي الْمَشْرَفَةِ بَعْدَ جُلُوسِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى زَمَانِ هِشَامٍ، فَنَقَلَ الْأَذَانَ الَّذِي كَانَ بِالزَّوْرَاءِ إِلَى الْمَشْرَفَةِ، وَنَقَلَ الْأَذَانَ الَّذِي كَانَ بِالْمَشْرَفَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنَّ يُؤَذِّنُوا صَفًّا، وَتَلَاهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ بَعْدِهِ مِنَ الْخُلَفَاءِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَهُوَ بِدْعَةٌ. قَالَ: وَالَّذِي فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ هُوَ السُّنَّةُ. وَذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ مَا كَانَ فِعْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِعْلَ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ، وَكَأَنَّهُ نَقَلَهُ مِنْ كِتَابِهِ، وَذَكَرَ قِصَّةَ هِشَامٍ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ السَّنَّةُ، وَقَدْ حَدَّثَنِي أَسَدُ بْنُ مُوسَى، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: " أَفْضَلُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ".. وَمَا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَنَّ الْأَذَانَ عِنْدَ صُعُودِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ كَانَ بَاقِيًا فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُوَافِقٌ لِمَا نَقَلَهُ أَرْبَابُ النَّقْلِ الصَّحِيحِ، وَأَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ إِلَّا الْأَذَانَ عَلَى الزَّوْرَاءِ، فَصَارَ إِذًا نَقْلُ هِشَامٍ الْأَذَانَ الْمَشْرُوعَ فِي الْمَنَارِ إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ بِدْعَةٌ فِي ذَلِكَ الْمَشْرُوعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَذَلِكَ أَذَانُ الزَّوْرَاءِ مُحْدَثٌ أَيْضًا، بَلْ هُوَ مُحْدَثٌ مِنْ أَصْلِهِ، غَيْرُ مَنْقُولٍ مِنْ مَوْضِعِهِ، فَالَّذِي يُقَالُ هُنَا يُقَالُ مِثْلُهُ فِي أَذَانِ هِشَامٍ، بَلْ هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَذَانَ الزَّوْرَاءِ وُضِعَ هُنَالِكَ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْإِعْلَامِ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ، وَجَعَلَهُ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُسْمَعَ إِذَا وُضِعَ بِالْمَسْجِدِ كَمَا كَانَ فِي زَمَانِ مَنْ قَبْلَهُ، فَصَارَتْ كَائِنَةً أُخْرَى لَمْ تَكُنْ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَاجْتَهَدَ لَهَا كَسَائِرِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَحِينَ كَانَ مَقْصُودَ الْأَذَانِ الْإِعْلَامُ؛ فَهُوَ بَاقٍ كَمَا كَانَ، فَلَيْسَ وَضْعُهُ هُنَالِكَ بِمُنَافٍ، إِذْ لَمْ تُخْتَرَعْ فِيهِ أَقَاوِيلُ مُحْدَثَةٌ، وَلَا ثَبْتَ أَنَّ الْأَذَانَ بِالْمَنَارِ أَوْ فِي سَطْحِ الْمَسْجِدِ تَعَبُّدٌ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَهُوَ الْمُلَائِمُ مِنْ أَقْسَامِ الْمُنَاسِبِ؛ بِخِلَافِ نَقْلِهِ مِنَ الْمَنَارِ إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ بِذَلِكَ أَوَّلًا عَنْ أَصْلِهِ مِنَ الْإِعْلَامِ، إِذْ لَمْ يُشْرَعْ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ إِعْلَامٌ بِالصَّلَاةِ إِلَّا بِالْإِقَامَةِ، وَأَذَانُ جَمْعِ الصَّلَاتَيْنِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَحَلِّهِ، ثُمَّ أَذَانُهُمْ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ زِيَادَةٌ فِي الْكَيْفِيَّةِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ وَاضِحٌ، وَلَا اعْتِرَاضَ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَمِنْ ذَلِكَ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ فِي الْعِيدَيْنِ؛ فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنْ لَا أَذَانَ وَلَا إِقَامَةَ فِيهِمَا، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَسْنُونَاتِ وَالنَّوَافِلِ، وَإِنَّمَا الْأَذَانُ لِلْمَكْتُوبَاتِ، وَعَلَى هَذَا مَضَى عَمَلُ الْخُلَفَاءِ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَجَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَعُلَمَاءِ التَّابِعِينَ، وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ فِي الْعِيدَيْنِ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ- هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، أَرَادَ أَنْ يُؤْذِنَ النَّاسَ بِالْأَذَانِ بِمَجِيءِ الْإِمَامِ، ثُمَّ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ كَمَا بَدَأَ بِهَا مَرْوَانُ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْإِقَامَةِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْخُطْبَةِ؛ لِيُؤْذِنَ النَّاسَ بِفَرَاغِهِ مِنَ الْخُطْبَةِ وَدُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِبُعْدِهِمْ عَنْهُ. (قَالَ): وَلَمْ يَرِدْ مَرْوَانُ وَهِشَامٌ [إِلَّا] الِاجْتِهَادَ فِيمَا رَأَيَا؛ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اجْتِهَادٌ فِي خِلَافِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (قَالَ): وَقَدْ حَدَّثَنِي ابْنُ الْمَاجِشُونِ: أَنَّهُ سَمِعَ مَالِكًا يَقُولُ: مِنْ أَحْدَثَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا؛ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا؛ فَلَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الَّذِي أَحْدَثَ الْأَذَانَ مُعَاوِيَةُ، وَقِيلَ: زِيَادٌ، وَأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ فَعَلَهُ آخِرَ إِمَارَتِهِ، وَالنَّاسُ عَلَى خِلَافِ هَذَا النَّقْلِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْأَذَانَ هَنَا نَظِيرُ أَذَانِ الزَّوْرَاءِ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَمَا تَقَدَّمَ فِيهِ مِنَ التَّوْجِيهِ الِاجْتِهَادِيِّ جَارٍ هُنَا، وَلَا يَكُونُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ قِصَّةَ هِشَامٍ نَازِلَةٌ لَا عَهْدَ بِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ إِعْلَامٌ بِمَجِيءِ الْإِمَامِ؛ لِخَفَاءِ مَجِيئِهِ عَنِ النَّاسِ؛ لِبُعْدِهِمْ عَنْهُ، ثُمَّ الْإِقَامَةَ لِلْإِعْلَامِ بِالصَّلَاةِ، إِذْ لَوْلَا هِيَ؛ لَمْ يَعْرِفُوا دُخُولَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَصَارَ ذَلِكَ أَمْرًا لَا بُدَّ مِنْهُ؛ كَأَذَانِ الزَّوْرَاءِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَجِيءَ الْإِمَامِ لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ الْأَذَانُ، وَإِنْ خَفِيَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ؛ لِبُعْدِهِ بِكَثْرَةِ النَّاسِ؛ فَكَذَلِكَ لَا يُشْرَعُ فِيمَا بَعْدُ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً، ثُمَّ لَمْ تُشْرَعْ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ غَيْرَ مُؤَثِّرَةٍ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ ثُمَّ تَصِيرُ مُؤَثِّرَةً. وَأَيْضًا؛ فَإِحْدَاثُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ انْبَنَى عَلَى إِحْدَاثِ تَقْدِيمِ الْخُطْبَةِ عَلَى الصَّلَاةِ، وَمَا انْبَنَى عَلَى الْمُحْدَثِ مُحْدَثٌ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُشْرَعْ فِي النَّوَافِلِ أَذَانٌ وَلَا إِقَامَةٌ عَلَى حَالٍ؛ فَهِمْنَا مِنَ الشَّرْعِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ؛ لِئَلَّا تَكُونَ النَّوَافِلُ كَالْفَرَائِضِ فِي الدُّعَاءِ إِلَيْهَا، فَكَانَ إِحْدَاثُ الدُّعَاءِ إِلَى النَّوَافِلِ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا. وَبِهَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَذَانِ الزَّوْرَاءِ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَلَا يَصِحُّ أَنَّ يُقَاسَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَالْأَمْثِلَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَمِنْ نَوَادِرِهَا الَّتِي لَا يَنْبَغِي أَنْ تُغْفَلَ مَا جَرَى بِهِ عَمَلُ جُمْلَةٍ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى طَرِيقَةِ الصُّوفِيَّةِ مِنْ تَرَبُّصِهِمْ بِبَعْضِ الْعِبَادَاتِ أَوْقَاتًا مَخْصُوصَةً غَيْرَ مَا وَقَّتَهُ الشَّرْعُ فِيهَا، فَيَضَعُونَ نَوْعًا مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي زَمَنِ الرَّبِيعِ، وَنَوْعًا آخَرَ فِي زَمَنِ الصَّيْفِ، وَنَوْعًا آخَرَ فِي زَمَنِ الْخَرِيفِ، وَنَوْعًا آخَرَ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ.... وَرُبَّمَا وَضَعُوا لِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ لِبَاسًا مَخْصُوصًا وَطِيبًا مَخْصُوصًا.... وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْضَاعِ الْفَلْسَفِيَّةِ يَضَعُونَهَا [عَلَى مَقَاصِدَ] شَرْعِيَّةٍ؛ أَيْ: مُتَقَرَّبًا بِهَا إِلَى الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي زَعْمِهِمْ، وَرُبَّمَا وَضَعُوهَا عَلَى مَقَاصِدَ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ؛ كَأَهْلِ التَّصْرِيفِ بِالْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ؛ لِيَسْتَجْلِبُوا بِهَا الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْحَظْوَةِ وَرِفْعَةِ الْمَنْزِلَةِ، بَلْ لِيَقْتُلُوا بِهَا إِنْ شَاؤُوا أَوْ يُمْرِضُوا أَوْ يَتَصَرَّفُوا وَفْقَ أَغْرَاضِهِمْ. فَهَذِهِ كُلُّهَا بِدَعٌ مُحْدَثَاتٌ، بَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ؛ لِبُعْدِ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ عَنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمَوْضُوعَةِ مُبَرَّأَةً عَنْ مَقَاصِدِ الْمُتَخَرِّصِينَ، مُطَهَّرَةً لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهَا عَنْ أَوَضَارِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، إِذْ كُلُّ مُتَدَيِّنٍ بِهَا عَارِفٌ بِمَقَاصِدِهَا يُنَزِّهُهَا عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الْوَاهِيَةِ، فَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى بُطْلَانِ دَعَاوِيهِمْ فِيهَا مِنْ بَابِ شُغْلِ الزَّمَانِ بِغَيْرِ مَا هُوَ أَوْلَى، وَقَدْ تَقَرَّرَ- بِحَوْلِ اللَّهِ- فِي أَصْلِ الْمَقَاصِدِ مِنْ كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ حُكْمُ هَذَا النَّمَطِ وَالْبُرْهَانِ عَلَى بُطْلَانِهِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ مُفِيدٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَهَذَا كُلُّهُ إِنْ فَرَضْنَا أَصْلَ الْعِبَادَةِ مَشْرُوعًا، فَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا غَيْرَ مَشْرُوعٍ؛ فَهِيَ بِدْعَةٌ حَقِيقِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ؛ كَالْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ [الَّتِي] يَزْعُمُ الْعُلَمَاءُ أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى عِلْمِ الْحُرُوفِ، وَهُوَ الَّذِي اعْتَنَى بِهِ الْبَوْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ حَذَا حَذْوَهُ أَوْ قَارَبَهُ. فَإِنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ فَلْسَفَةٌ أَلْطَفُ مِنْ فَلْسَفَةِ مُعَلِّمِهِمُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَرِسْطَا طَالِيسَ، فَرَدُّوهَا إِلَى أَوْضَاعِ الْحُرُوفَ، وَجَعَلُوهَا هِيَ الْحَاكِمَةَ فِي الْعَالَمِ، وَرُبَّمَا أَشَارُوا عِنْدَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْأَذْكَارِ وَمَا قُصِدَ بِهَا إِلَى تَحَرِّي الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ الْمُلَائِمَةِ لِطَبَائِعِ الْكَوَاكِبِ؛ لِيَحْصُلَ التَّأْثِيرُ عِنْدَهُمْ وَحْيًا. فَحَكَّمُوا الْعُقُولَ وَالطَّبَائِعَ- كَمَا تَرَى-، وَتَوَجَّهُوا شَطْرَهَا، وَأَعْرَضُوا عَنْ رَبِّ الْعَقْلِ وَالطَّبَائِعِ، وَإِنْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَهُ اعْتِقَادًا فِي اسْتِدْلَالِهِمْ لِصِحَّةِ مَا انْتَحَلُوا عَلَى وُقُوعِ الْأَمْرِ وَفْقَ مَا يَقْصِدُونَ، فَإِذَا تَوَجَّهُوا بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ الْمَفْرُوضِ عَلَى الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ حَصَلَ، سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَنَفْعًا (كَانَ) أَوْ ضُرًّا، وَخَيْرًا كَانَ أَمْ شَرًّا، وَيَبْنُونَ عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادَ بُلُوغِ النِّهَايَةِ فِي إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، أَوْ حَصَلَ نَوْعٌ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، كَلَّا! لَيْسَ طَرِيقُ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ مِنْ مُرَادِهِمْ، وَلَا كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ أَوْ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ مِنْ نَتَائِجِ أَوْرَادِهِمْ، فَلَا تَلَاقِي بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ النَّارِ وَالْمَاءِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ يَحْصُلُ التَّأْثِيرُ حَسْبَمَا قَصَدُوا؟ فَالْجَوَابُ: إِنَّ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ مِنْ قَبِيلِ الْفِتْنَةِ الَّتِي اقْتَضَاهَا فِي الْخَلْقِ: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}، فَالنَّظَرُ إِلَى وَضْعِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ أَحْكَامٌ وَضَعَهَا الْبَارِي تَعَالَى فِي النُّفُوسِ، يَظْهَرُ عِنْدَهَا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ التَّأْثِيرَاتِ، عَلَى نَحْوِ مَا يَظْهَرُ عَلَى الْمَعِينِ عِنْدَ الْإِصَابَةِ، وَعَلَى الْمَسْحُورِ عِنْدَ عَمَلِ السِّحْرِ، بَلْ هُوَ بِالسِّحْرِ أَشْبَهُ؛ لِاسْتِمْدَادِهِمَا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ. وَشَاهِدُهُ مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي (وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ، وَشَرْحُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ لَا يَلِيقُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ وَضْعَ الْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ، عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ، لَكِنْ تَارَةً تَكُونُ الْبِدْعَةُ فِيهَا إِضَافِيَّةً، بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَتَارَةً تَكُونُ حَقِيقِيَّةً.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْبِدَعُ الْإِضَافِيَّةُ هَلْ يُعْتَدُّ بِهَا عِبَادَاتٍ حَتَّى تَكُونَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ مُتَقَرَّبًا بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ؛ فَلَا تَأْثِيرَ إِذًا لِكَوْنِهَا بِدْعَةً، وَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ، إِذْ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ لَا يُعْتَبَرَ بِجِهَةِ الِابْتِدَاعِ فِي الْعِبَادَةِ الْمَفْرُوضَةِ، فَتَقَعُ مَشْرُوعَةً يُثَابُ عَلَيْهَا، فَتَصِيرُ جِهَةَ الِابْتِدَاعِ مُغْتَفِرَةً، فَلَا عَلَى الْمُبْتَدَعِ فِيهَا أَنْ يَبْتَدِعَ، وَإِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ بِجِهَةِ الِابْتِدَاعِ؛ فَقَدْ صَارَ لِلِابْتِدَاعِ أَثَرٌ فِي تَرَتُّبِ الثَّوَابِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَنْفِيًّا عَنْهُ بِإِطْلَاقٍ، وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَرَّرَ مِنْ عُمُومِ الذَّمِّ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي؛ فَقَدِ اتَّحَدَتِ الْبِدْعَةُ الْإِضَافِيَّةُ مَعَ الْحَقِيقِيَّةِ بِالتَّقْسِيمِ الَّذِي انْبَنَى عَلَيْهِ الْبَابُ الَّذِي نَحْنُ فِي شَرْحِهِ، [وَ] وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ حَاصِلَ الْبِدْعَةِ الْإِضَافِيَّةِ أَنَّهَا لَا تَنْحَازُ إِلَى جَانِبٍ مَخْصُوصٍ فِي الْجُمْلَةِ، بَلْ يَنْحَازُ بِهَا الْأَصْلَانِ- أَصْلُ السُّنَّةِ وَأَصْلُ الْبِدْعَةِ-، لَكِنْ مِنْ وَجْهَيْنِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ اقْتَضَى النَّظَرُ السَّابِقُ لِلذِّهْنِ أَنْ يُثَابَ الْعَامِلُ بِهَا مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ، وَيُعَاتَبُ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ. إِلَّا أَنَّ هَذَا النَّظَرَ لَا يَتَحَصَّلُ؛ لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ، وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي جِهَةِ الْبِدْعَةِ فِي الْعَمَلِ: لَا يَخْلُو أَنْ تَنْفَرِدَ أَوْ تَلْتَصِقَ، وَإِنِ الْتَصَقَتْ؛ فَلَا تَخْلُو: أَنْ تَصِيرَ وَصْفًا لِلْمَشْرُوعِ غَيْرَ مُنْفَكٍّ- إِمَّا بِالْقَصْدِ أَوْ بِالْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ الْعَادِيِّ- أَوْ لَا تَصِيرُ وَصْفًا، وَإِنْ لَمْ تَصِرْ وَصْفًا؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَضْعُهَا إِلَى أَنْ تَصِيرَ وَصْفًا أَوْ لَا. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهَا فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْمَطْلُوبِ بِحَوْلِ اللَّهِ: فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ تَنْفَرِدَ الْبِدْعَةُ عَنِ الْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ-؛ فَالْكَلَامُ فِيهِ ظَاهِرُ مِمَّا تَقَدَّمَ؛ إِلَّا أَنَّهُ [إِنْ] كَانَ وَضْعُهُ عَلَى جِهَةِ التَّعَبُّدِ؛ فَبِدْعَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ فِعْلٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَفْعَالِ الْعَادِيَّةِ، لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَالْعِبَادَةُ سَالِمَةٌ، وَالْعَمَلُ الْعَادِيُّ خَارِجٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. مِثَالُهُ: الرَّجُلُ يُرِيدُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَيَتَنَحْنَحُ مَثَلًا، أَوْ يَتَمَخَّطُ، أَوْ يَمْشِي خُطُوَاتٍ، أَوْ يَفْعَلُ شَيْئًا، وَلَا يَقْصِدُ بِذَا وَجْهًا رَاجِعًا إِلَى الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ عَادَةً أَوْ تَقَزُّزًا؛ فَمِثْلُ هَذَا لَا حَرَجَ فِيهِ فِي نَفْسِهِ وَلَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْعَادَاتِ الْجَائِزَةِ؛ إِلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَيْضًا أَنْ لَا يَكُونَ بِحَيْثُ يُفْهَمُ مِنْهُ الِانْضِمَامُ إِلَى الصَّلَاةِ عَمَلًا أَوْ قَصْدًا؛ فَإِنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَصِيرُ بِدْعَةً، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا؛ إِذَا فَرَضْنَا أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا قَصْدَ التَّقَرُّبِ مِمَّا لَمْ يُشْرَعْ أَصْلًا، ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُ إِلَى الصَّلَاةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَلَمْ يَقْصِدْ فِعْلَهُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، وَلَا كَانَ مَظَنَّةً لِأَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ انْضِمَامُهُ إِلَيْهَا، فَلَا يَقْدَحُ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الذَّمُّ فِيهِ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ عَلَى الِانْفِرَادِ. وَمِثْلُهُ لَوْ أَرَادَ الْقِيَامَ إِلَى الْعِبَادَةِ، فَفَعَلَ عِبَادَةً مَشْرُوعَةً مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الِانْضِمَامِ، وَلَا جَعَلَهُ عُرْضَةً لِقَصْدِ انْضِمَامِهِ، فَتِلْكَ الْعِبَادَتَانِ عَلَى أَصَالَتِهِمَا. وَكَقَوْلِ الرَّجُلِ عِنْدَ الذَّبْحِ أَوِ الْعِتْقِ: اللَّهُمَّ مِنْكَ وَإِلَيْكَ، عَلَى غَيْرِ الْتِزَامٍ وَلَا قَصْدِ الِانْضِمَامِ. وَكَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الطَّوَافِ لَا بِقَصْدِ الطَّوَافِ وَلَا عَلَى الِالْتِزَامِ. فَكُلُّ عِبَادَةٍ هُنَا مُنْفَرِدَةٌ عَنْ صَاحِبَتِهَا؛ فَلَا حَرَجَ فِيهَا. وَعَلَى ذَلِكَ نَقُولُ: لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الدُّعَاءَ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ حُكْمُهُ وَقَعَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِلْأَمْرِ يَحْدُثُ عَنْ قَحْطٍ أَوْ خَوْفٍ مِنْ مُلِمٍّ؛ لَكَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، إِذْ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يُخَافُ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ الِانْضِمَامِ، وَلَا كَوْنُهُ سُنَّةً تُقَامُ فِي الْجَمَاعَاتِ وَيُعْلَنُ بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ؛ كَمَا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُعَاءَ الِاسْتِسْقَاءِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ وَهُوَ يَخْطُبُ، وَكَمَا أَنَّهُ دَعَا أَيْضًا فِي غَيْرِ أَعْقَابِ الصَّلَوَاتِ عَلَى هَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ، لَكِنْ فِي الْفَرَطِ وَفِي بَعْضِ الْأَحَايِينِ؛ كَسَائِرِ الْمُسْتَحَبَّاتِ الَّتِي لَا يَتَرَبَّصُ بِهَا وَقْتًا بِعَيْنِهِ وَكَيْفِيَّةً بِعَيْنِهَا. وَخَرَّجَ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أُسَيْدٍ... قَالَ: كَانَ عُمَرُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ؛ أَخْرَجَ النَّاسَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَتَخَلَّفَ لَيْلَةً مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ، فَأَتَى عَلَيْهِمْ، فَعَرَفَهُمْ، فَأَلْقَى دُرَّتَهُ وَجَلَسَ مَعَهُمْ، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا فُلَانُ! ادْعُ اللَّهَ لَنَا، يَا فُلَانُ! ادْعُ اللَّهَ لَنَا، حَتَّى صَارَ الدُّعَاءُ إِلَى غَيْرٍ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: عُمَرُ فَظٌّ غَلِيظٌ! فَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ تِلْكَ السَّاعَةَ أَرَقَّ مِنْ عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) لَا ثَكْلَى وَلَا أَحَدًا. وَعَنْ سَلْمٍ الْعَلَوِيِّ؛ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِأَنَسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) يَوْمًا: يَا أَبَا حَمْزَةَ! لَوْ دَعَوْتَ لَنَا بِدَعَوَاتٍ... فَقَالَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، قَالَ: فَأَعَادَهَا مِرَارًا ثَلَاثًا، فَقَالَ يَا أَبَا حَمْزَةَ! لَوْ دَعَوْتَ... فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا؛ فَلَا إِنْكَارَ فِيهِ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ فِيهِ أَمْرٌ زَائِدٌ؛ صَارَ الدُّعَاءُ (فِيهِ) بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ؛ فَقَدْ جَاءَ فِي دُعَاءِ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ حُكْمُهُ الْكَرَاهِيَةُ عَنِ السَّلَفِ، لَا عَلَى حُكْمِ الْأَصَالَةِ، بَلْ بِسَبَبِ مَا يَنْضَمُّ إِلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُخْرِجَةِ عَنِ الْأَصْلِ، وَلِنَذْكُرَهُ هُنَا لِاجْتِمَاعِ أَطْرَافِ الْمَسْأَلَةِ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الدُّعَاءِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ بِآثَارِ الصَّلَوَاتِ فِي الْجَمَاعَاتِ دَائِمًا. فَخَرَّجَ الطَّبَرِيُّ عَنْ مُدْرِكِ بْنِ عِمْرَانَ؛ قَالَ: كَتَبَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): فَادْعُ اللَّهَ لِي، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنِّي لَسْتُ بِنَبِيٍّ، وَلَكِنْ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ؛ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ لِذَنْبِكَ. فَإِبَايَةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ أَصْلِ الدُّعَاءِ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَإِلَّا تَعَارَضَ كَلَامُهُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ، فَكَأَنَّهُ فَهِمَ مِنَ السَّائِلِ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى الدُّعَاءِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: لَسْتُ بِنَبِيٍّ. وَيَدُلُّكَ عَلَى هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ؛ أَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرٌ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ وَلَا لِذَاكَ، أَنَبِيٌّ أَنَا؟! فَهَذَا أَوْضَحُ فِي أَنَّهُ فَهِمَ مِنَ السَّائِلِ أَمْرًا زَائِدًا، وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ أَنَّهُ مِثْلُ النَّبِيِّ، أَوْ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى أَنْ يَعْتَقِدَ ذَلِكَ، أَوْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ سُنَّةٌ تُلْزَمُ، أَوْ يَجْرِي فِي النَّاسِ مَجْرَى السُّنَنِ الْمُلْتَزِمَةِ. وَنَحْوُهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا يَذْهَبُ إِلَى نِسَائِهِ، فَيَقُولُ: اسْتَغْفَرَ لِي حُذَيْفَةُ، أَتَرْضَيْنَ أَنْ أَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ تَكُنَّ مِثْلَ حُذَيْفَةَ؟ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَمْرٌ زَائِدٌ يَكُونُ الدُّعَاءُ لَهُ ذَرِيعَةً حَتَّى يَخْرُجَ عَنْ أَصْلِهِ؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَ مَا دَعَا عَلَى الرَّجُلِ: هَذَا يَذْهَبُ إِلَى نِسَائِهِ فَيَقُولُ كَذَا؛ أَيْ: فَيَأْتِي نِسَاؤُهُ لِمِثْلِهَا، وَيَشْتَهِرُ الْأَمْرُ حَتَّى يُتَّخَذَ سُنَّةً، وَيُعْتَقَدَ فِي حُذَيْفَةَ مَا لَا يُحِبُّهُ هُوَ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ يَخْرُجُ الْمَشْرُوعُ عَنْ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا، وَيُؤَدِّي إِلَى التَّشَيُّعِ وَاعْتِقَادِ أَكْثَرَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى بِحَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ؛ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: يَا أَبَا عِمْرَانَ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَنِي، فِكْرَهَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ، وَقَطَّبَ، وَقَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى حُذَيْفَةَ، فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي، فَقَالَ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَلَسَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ قَالَ: فَأَدْخَلَكَ اللَّهُ مَدْخَلَ حُذَيْفَةَ، أَقَدْ رَضِيتَ؟ الْآنَ يَأْتِي أَحَدُكُمُ الرَّجُلَ كَأَنَّهُ قَدْ أَحْصَرَ شَأْنَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ السُّنَّةَ فَرَغَّبَ فِيهَا، وَذَكَرَ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ فَكَرِهَهُ. وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ؛ قَالَ: كَانُوا يَجْتَمِعُونَ فَيَتَذَاكَرُونَ فَلَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اسْتَغْفِرْ لَنَا... فَتَأَمَّلُوا يَا أُولِي الْأَلْبَابِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ هَذِهِ الضَّمَائِمِ الْمُنْضَمَّةِ إِلَى الدُّعَاءِ، حَتَّى كَرِهُوا الدُّعَاءَ إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ، فَقِسْ بِعَقْلِكَ مَاذَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي دُعَائِنَا بِآثَارِ الصَّلَاةِ، بَلْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُوَاطِنِ، وَانْظُرُوا إِلَى اسْتِنَارَةِ إِبْرَاهِيمَ تَرْغِيبَهُ فِي السُّنَّةِ وَكَرَاهِيَةِ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ، بَعْدَ تَقْرِيرِ مَا تَقَدَّمَ. وَهَذِهِ الْآثَارُ مِنْ تَخْرِيجِ الطَّبَرِيِّ فِي " تَهْذِيبِ الْآثَارِ " لَهُ. وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي مَا خَرَّجَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ نَبَّهَانَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَقْرَءُونَ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَأْمُرُونَكَ أَنْ تَدْعُوَ لَهُمْ وَتُوصِيَهُمْ، فَقَالَ: اقْرَءُوا عَلَيْهِمُ السَّلَامَ، وَمُرُوهُمْ أَنْ يُعْطُوا الْقُرْآنَ حَقَّهُ؛ فَإِنَّهُ يَحْمِلُهُمْ- أَوْ يَأْخُذُ بِهِمْ- عَلَى الْقَصْدِ وَالسُّهُولَةِ، وَيُجَنِّبُهُمُ الْجَوْرَ وَالْحُزُونَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ دَعَا لَهُمْ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْعَمَلُ الْعَادِيُّ أَوْ غَيْرُهُ كَالْوَصْفِ لِلْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ؛ إِلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْمَشْرُوعَ لَمْ يَتَّصِفْ فِي الشَّرْعِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ: فَظَاهِرُ الْأَمْرِ انْقِلَابُ الْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا؛ فَهُوَ رَدٌّ. وَهَذَا الْعَمَلُ عِنْدَ اتِّصَافِهِ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ عَمَلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَهُوَ إِذًا رَدٌّ؛ كَصَلَاةِ الْفَرْضِ- مَثَلًا- إِذَا صَلَّاهَا الْقَادِرُ الصَّحِيحُ قَاعِدًا، أَوْ سَبَّحَ فِي مَوْضِعِ الْقِرَاءَةِ، أَوْ قَرَأَ فِي مَوْضِعِ التَّسْبِيحِ.... وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَقَدْ نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ، وَنَهَى عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا، فَبَالَغَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَعْمِيمِ النَّهْيِ، حَتَّى عَدُّوا صَلَاةَ الْفَرْضِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دَاخِلًا تَحْتَ النَّهْيِ، فَبَاشَرَ النَّهْيَ الصَّلَاةَ لِأَجْلِ اتِّصَافِهَا بِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، كَمَا اعْتَبَرَ فِيهَا الزَّمَانَ بِاتِّفَاقٍ فِي الْفَرْضِ؛ فَلَا تُصَلَّى الظُّهْرُ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَلَا الْمَغْرِبُ قَبْلَ الْغُرُوبِ. وَنَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ صِيَامِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى بُطْلَانِ الْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ. فَكُلُّ مَنْ تَعَبَّدَ لِلَّهِ تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي غَيْرِ أَزْمَانِهَا؛ تَعَبَّدَ بِبِدْعَةٍ حَقِيقِيَّةٍ لَا إِضَافِيَّةٍ، فَلَا جِهَةَ لَهَا إِلَى الْمَشْرُوعِ، بَلْ غَلَبَتْ عَلَيْهَا جِهَةُ الِابْتِدَاعِ، فَلَا ثَوَابَ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ. فَلَوْ فَرَضْنَا قَائِلًا يَقُولُ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ الْوَاقِعَةِ فِي وَقْتِ الْكَرَاهِيَةِ، أَوْ صِحَّةِ الصَّوْمِ الْوَاقِعِ يَوْمَ الْعِيدِ؛ فَعَلَى فَرْضِ أَنَّ النَّهْيَ رَاجِعٌ إِلَى أَمْرٍ لَمْ يَصِرْ لِلْعِبَادَةِ كَالْوَصْفِ، بَلِ الْأَمْرُ مُنْفَكٌّ مُنْفَرِدٌ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ بِحَوْلِ اللَّهِ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَا جَرَى بِهِ الْعَمَلُ فِي بَعْضِ النَّاسِ؛ كَالَّذِي حَكَى الْقَرَافِيُّ عَنِ الْعَجَمِ فِي اعْتِقَادِ كَوْنِ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، فَإِنَّ قِرَاءَةَ سُورَةِ السَّجْدَةِ لَمَّا الْتُزِمَتْ فِيهَا وَحُوفِظَ عَلَيْهَا؛ اعْتَقَدُوا فِيهَا الرُّكْنِيَّةَ، فَعَدُّوهَا رَكْعَةً ثَالِثَةً، فَصَارَتِ السَّجْدَةُ إِذًا وَصْفًا لَازِمًا وَجُزْءًا مِنْ صَلَاةِ صُبْحِ الْجُمْعَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ. وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يَنْبَغِي أَنْ تَجْرِيَ الْعِبَادَاتُ الْمَشْرُوعَةُ إِذَا خُصَّتْ بِأَزْمَانٍ مَخْصُوصَةٍ بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ، مِنْ حَيْثُ فَهِمْنَا تَلَبُّسًا بِالْأَعْمَالِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَصَيْرُورَةُ ذَلِكَ الزَّائِدِ وَصْفًا فِيهِ مُخْرِجٌ لَهُ عَنْ أَصْلِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصِّفَةَ مَعَ الْمَوْصُوفِ مِنْ حَيْثُ هِيَ صِفَةٌ لَهُ لَا تُفَارِقُهُ هِيَ مِنْ جُمْلَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ الصِّفَةَ هِيَ عَيْنُ الْمَوْصُوفِ إِذَا كَانَتْ لَازِمَةً لَهُ حَقِيقَةً أَوِ اعْتِبَارًا، وَلَوْ فَرَضْنَا ارْتِفَاعَهَا عَنْهُ؛ لَارْتَفَعَ الْمَوْصُوفُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَوْصُوفٌ بِهَا؛ كَارْتِفَاعِ الْإِنْسَانِ بِارْتِفَاعِ النَّاطِقِ أَوِ الضَّاحِكِ، فَإِذَا كَانَتِ الصِّفَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْمَشْرُوعِ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ؛ صَارَ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا غَيْرَ مَشْرُوعٍ، فَارْتَفَعَ اعْتِبَارُ الْمَشْرُوعِ الْأَصْلِيِّ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ أَيْضًا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالْإِدَارَةِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ؛ فَإِنَّ تِلْكَ الْهَيْئَةَ زَائِدَةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِرَاءَةِ، وَكَذَلِكَ الْجَهْرُ الَّذِي اعْتَادَهُ أَرْبَابُ الزَّوَايَا. وَرُبَّمَا لَطُفَ اعْتِبَارُ الصِّفَةِ، فَيَشُكُّ فِي بُطْلَانِ الْمَشْرُوعِيَّةِ؛ كَمَا وَقَعَ فِي " الْعُتْبِيَّةِ " عَنْ مَالِكٍ فِي مَسْأَلَةِ الِاعْتِمَادِ فِي الصَّلَاةِ لَا يُحَرِّكُ رِجْلَيْهِ، وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهُ رَجُلٌ قَدْ عُرِفَ، قَالَ: وَقَدْ كَانَ مُسَاءً (أَيْ: يُسَاءُ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ)، فَقِيلَ لَهُ: أَفَعَيْبٌ؟ قَالَ: قَدْ عِيبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَهَذَا مَكْرُوهٌ مِنَ الْفِعْلِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا أَنَّ الصَّلَاةَ بَاطِلَةٌ، وَذَلِكَ لِضَعْفِ وَصْفِ الِاعْتِمَادِ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الصَّلَاةِ، وَلُطْفِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَمَالِ هَيْئَتِهَا. وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اتِّصَافِ الْعَمَلِ بِمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ أَوْ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، فَإِذَا غَلَبَ الْوَصْفُ عَلَى الْعَمَلِ؛ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْفَسَادِ، وَإِذَا لَمْ يَغْلِبْ؛ لَمْ يَكُنْ أَقْرَبَ، وَبَقِيَ فِي حُكْمِ النَّظَرِ، فَيَدْخُلُ هَاهُنَا نَظَرُ الِاحْتِيَاطِ لِلْعِبَادَةِ إِذَا صَارَ الْعَمَلُ فِي الِاعْتِبَارِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ حَيْثُ قُلْنَا: إِنَّ الْعَمَلَ الزَّائِدَ عَلَى الْمَشْرُوعِ يَصِيرُ وَصْفًا لَهَا أَوْ كَالْوَصْفِ؛ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: إِمَّا بِالْقَصْدِ، وَإِمَّا بِالْعَادَةِ، وَإِمَّا بِالشَّرْعِ. أَمَّا بِالْقَصْدِ فَظَاهِرٌ؛ بَلْ هُوَ أَصْلُ التَّشْرِيعِ فِي الْمَشْرُوعَاتِ بِالزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ. وَأَمَّا بِالْعَادَةِ؛ فَكَالْجَهْرِ وَالِاجْتِمَاعِ فِي الذِّكْرِ الْمَشْهُورِ بَيْنَ مُتَصَوِّفَةِ الزَّمَانِ؛ فَإِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ بَوْنًا بَعِيدًا، إِذْ هُمَا كَالْمُتَضَادَّيْنِ عَادَةً، وَكَالَّذِي حَكَى ابْنُ وَضَّاحٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، قَالَ: مَرَّ عَبْدُ اللَّهِ بِرَجُلٍ يَقُصُّ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُوَ يَقُولُ: سَبِّحُوا عَشْرًا، وَهَلِّلُوا عَشْرًا: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّكُمْ لَأَهْدَى مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَضَلُّ، بَلْ هَذِهِ (يَعْنِي أَضَلَّ)، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: أَنْ رَجُلًا كَانَ يَجْمَعُ النَّاسَ، فَيَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً سُبْحَانَ اللَّهِ، قَالَ: فَيَقُولُ الْقَوْمُ، وَيَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: فَيَقُولُ الْقَوْمُ، قَالَ: فَمَرَّ بِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، فَقَالَ لَهُمْ: هُدِيتُمْ لِمَا لَمْ يُهْدَ نَبِيُّكُمْ! وَإِنَّكُمْ لِتُمْسِكُونِ بِذَنَبِ ضَلَالَةٍ. وَذُكِرَ لَهُ أَنَّ نَاسًا بِالْكُوفَةِ يُسَبِّحُونَ بِالْحَصَى فِي الْمَسْجِدِ، فَأَتَاهُمْ وَقَدْ كَوَّمَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَوْمًا مِنْ حَصَى؛ قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يَحْصَبَهُمْ بِالْحَصَى حَتَّى أَخْرَجَهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَيَقُولُ: لَقَدْ أَحْدَثْتُمْ بِدْعَةً وَظُلْمًا، وَقَدْ فَضَلْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمًا. فَهَذِهِ أُمُورٌ أَخْرَجَتِ الذِّكْرَ [عَنْ وَصْفِهِ] الْمَشْرُوعِ؛ كَالَّذِي تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، أَوِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ إِذَا صُلِّيَتْ قَبْلَ أَوْقَاتِهَا؛ فَإِنَّا قَدْ فَهِمَنَا مِنَ الشَّرْعِ الْقَصْدَ إِلَى النَّهْيِ عَنْهَا، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَا يَكُونُ مُتَعَبَّدًا [بِهِ]، وَكَذَلِكَ صِيَامُ يَوْمِ الْعِيدِ. وَخَرَّجَ ابْنُ وَضَّاحٍ مِنْ حَدِيثِ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَبَّاسٍ؛ قَالَ: لَقِيتُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيَّ، فَقُلْتُ لَهُ: قَوْمٌ مِنْ إِخْوَانِكَ مِنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لَا يَطْعَنُونَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَجْتَمِعُونَ فِي بَيْتِ هَذَا يَوْمًا وَفِي بَيْتِ هَذَا يَوْمًا، وَيَجْتَمِعُونَ يَوْمَ النَّيْرُوزِ وَالْمَهْرَجَانِ، وَيَصُومُونَهَا، فَقَالَ طَلْحَةُ: بِدْعَةٌ مِنْ أَشَدِّ الْبِدَعِ، وَاللَّهِ لَهُمْ أَشَدُّ تَعْظِيمًا لِلنَّيْرُوزِ وَالْمَهْرَجَانِ مِنْ عِيدِهِمْ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، فَرَقِيتُ إِلَيْهِ، وَسَأَلْتُهُ كَمَا سَأَلْتُ طَلْحَةَ، فَرَدَّ عَلَيَّ مِثْلَ قَوْلِ طَلْحَةَ؛كَأَنَّهُمَا كَانَ عَلَى مِيعَادٍ، فَجَعَلَ صَوْمَ تِلْكَ الْأَيَّامِ مِنْ تَعْظِيمِ مَا تُعَظِّمُهُ النَّصَارَى، وَذَاكَ الْقَصْدُ لَوْ كَانَ أَفْسَدَ لِلْعِبَادَةِ؛ فَكَذَلِكَ مَا كَانَ نَحْوَهُ. وَعَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ: أَنْ رَجُلًا قَالَ لِلْحَسَنِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ! مَا تَرَى فِي مَجْلِسِنَا هَذَا؟ قَوْمٌ مِنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَا يَطْعَنُونَ عَلَى أَحَدٍ، نَجْتَمِعُ فِي بَيْتِ هَذَا يَوْمًا، وَفِي بَيْتِ هَذَا يَوْمًا، فَنَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ، وَنَدْعُو لِأَنْفُسِنَا وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: فَنَهَى الْحَسَنُ عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ. وَالنَّقْلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ، فَلَوْ لَمْ يَبْلُغِ الْعَمَلُ الزَّائِدُ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ؛ كَانَ أَخَفَّ، وَانْفَرَدَ الْعَمَلُ بِحُكْمِهِ وَالْعَمَلُ الْمَشْرُوعِ بِحُكْمِهِ؛ كَمَا حَكَى ابْنُ وَضَّاحٍ عَنْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ؛ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ، وَكَانَ مَجْلِسُهُ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى بَلَغَ: (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا)، فَرَفَعَ أَصْوَاتَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَهُ جُلُوسًا، فَجَاءَ مُجَالِدُ بْنُ مَسْعُودٍ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصَاهُ، فَلَمَّا رَآهُ الْقَوْمُ؛ قَالُوا: مَرْحَبًا، اجْلِسْ، قَالَ: مَا كُنْتُ لِأَجْلِسَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ كَانَ مَجْلِسُكُمْ حَسَنًا، وَلَكِنَّكُمْ صَنَعْتُمْ قِبَلِي شَيْئًا أَنْكَرَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَإِيَّاكُمْ وَمَا أَنْكَرَ الْمُسْلِمُونَ. فَتَحْسِينُهُ الْمَجْلِسَ كَانَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا رَفْعُ الصَّوْتِ؛ فَكَانَ خَارِجًا عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَنْضَمَّ إِلَى الْعَمَلِ الْحَسَنِ، حَتَّى إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ؛ صَارَ الْمَجْمُوعُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ. وَيُشْبِهُ هَذَا مَا فِي " سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْقَوْمِ يَجْتَمِعُونَ جَمِيعًا، فَيَقْرَءُونَ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ. وَسُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا عَنْ نَحْوِ ذَلِكَ؟ فَحَكَى الْكَرَاهِيَةَ عَنْ مَالِكٍ، وَنَهَى عَنْهَا، وَرَآهَا بِدْعَةً. وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ مَالِكٍ: وَسُئِلَ عَنِ الْقِرَاءَةِ بِالْمَسْجِدِ؟ فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ بِالْأَمْرِ الْقَدِيمِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أُحْدِثَ، وَلَمْ يَأْتِ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَهْدَى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلُهَا، وَالْقُرْآنُ حَسَنٌ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: يُرِيدُ الْتِزَامَ الْقِرَاءَةِ فِي الْمَسْجِدِ بِإِثْرِ صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ عَلَى وَجْهٍ مَا مَخْصُوصٌ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ كُلُّهُ سُنَّةً؛ مِثْلَ مَا بِجَامِعِ قُرْطُبَةَ إِثْرَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، قَالَ: فَرَأَى ذَلِكَ بِدْعَةً. فَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ: " وَالْقُرْآنُ حَسَنٌ "؛ يَحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَعْنِي أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ وَجَعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ مُنْفَصِلٌ لَا يَقْدَحُ فِي حُسْنِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَيَحْتَمَلُ- وَهُوَ الظَّاهِرُ- أَنَّهُ يَقُولُ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ حَسَنٌ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: مَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُقْرَأَ الْقُرْآنُ إِلَّا فِي الصَّلَاةِ وَالْمَسَاجِدِ، لَا فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقِ، فَيُرِيدُ أَنَّهُ لَا يُقْرَأُ إِلَّا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَقْرَؤُهُ السَّلَفُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْإِدَارَةِ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُ، فَلَا تُفْعَلُ أَصْلًا، وَتَحَرَّزَ بِقَوْلِهِ: " وَالْقُرْآنُ حَسَنٌ "؛ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ يَكْرَهُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ مُطْلَقًا، فَلَا يَكُونُ فِي كَلَامِ مَالِكٍ دَلِيلٌ عَلَى انْفِكَاكِ الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْوَصْفُ عُرْضَةً لِأَنْ يَنْضَمَّ إِلَى الْعِبَادَةِ، حَتَّى يُعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ أَوْصَافِهَا أَوْ جُزْءٌ مِنْهَا: فَهَذَا الْقِسْمُ يُنْظَرُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ النَّهْيِ عَنِ الذَّرَائِعِ، وَهُوَ إِنْ كَانَ فِي الْجُمْلَةِ مُتَّفِقًا عَلَيْهِ؛ فَفِيهِ فِي التَّفْصِيلِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا هُوَ ذَرِيعَةٌ إِلَى مَمْنُوعٍ يُمْنَعُ؛ بِدَلِيلِ الْخِلَافِ الْوَاقِعِ فِي بُيُوعِ الْآجَالِ وَمَا كَانَ نَحْوَهَا؛ غَيْرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيَّ يَحْكِي الِاتِّفَاقَ فِي هَذَا النَّوْعِ اسْتِقْرَاءً مِنْ مَسَائِلَ وَقَعَتْ لِلْعُلَمَاءِ مَنَعُوهَا سَدًا لِلذَّرِيعَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْخِلَافُ فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ؛ لَمْ يُنْكَرْ أَنْ يَقُولَ بِهِ قَائِلٌ فِي بَعْضِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَلْنُمَثِّلْهُ أَوَّلًا ثُمَّ نَتَكَلَّمْ عَلَى حُكْمِهِ بِحَوْلِ اللَّهِ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ مِنْ نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُتَقَدَّمَ شَهْرُ رَمَضَانَ بِصِيَامِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مَخَافَةَ أَنْ يُعَدَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ رَمَضَانَ. وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ لَا يُقْصِرُ فِي السَّفَرِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَلَسْتَ قَصَرْتَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى! وَلَكِنِّي إِمَامُ النَّاسِ فَيَنْظُرُ إِلَيَّ الْأَعْرَابُ وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ أُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ، فَيَقُولُ: هَكَذَا فُرِضَتْ، فَالْقَصْرُ فِي السَّفَرِ سُنَّةٌ أَوْ وَاجِبٌ، وَمَعَ ذَلِكَ تَرَكَهُ؛ خَوْفَ أَنْ يُتَذَرَّعَ بِهِ لِأَمْرٍ حَادِثٍ فِي الدِّينِ غَيْرِ مَشْرُوعٍ. وَمِنْهُ قِصَّةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي غُسْلِهِ مِنْ الِاحْتِلَامِ حَتَّى أَسْفَرَ، وَقَوْلُهُ لِمَنْ رَاجَعَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَثْوَابِهِمْ مَا يُصَلِّي بِهِ، ثُمَّ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ عَلَى السِّعَةِ: لَوْ فَعَلْتُهُ؛ لَكَانَتْ سُنَّةً، بَلْ أَغْسِلُ مَا رَأَيْتُ، وَأَنْضَحُ مَا لَمْ أَرَ. وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ أَسِيدٍ: شَهِدْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)، وَكَانَا لَا يُضَحِّيَانِ مَخَافَةَ أَنْ يُرَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ. وَنَحْوُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: إِنِّي لَأَتْرُكَ أُضْحِيَتِي- وَإِنِّي لِمَنْ أَيْسَرِكُمْ-؛ مَخَافَةَ أَنْ يَظُنَّ الْجِيرَانُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ. وَكَثِيرٌ مِنْ هَذَا عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ. وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ إِتْبَاعَ رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَوَافَقَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، فَقَالَ: لَا أَسْتَحِبُّهَا، مَعَ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَأَخْبَرَ مَالِكٌ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَصُومُونَهَا وَيَخَافُونَ بِدَعَتَهَا. وَمِنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي اتِّبَاعِ الْآثَارِ؛ كَمَجِيءِ قُبَاءَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَكُلُّ عَمَلٍ أَصْلُهُ ثَابِتٌ شَرْعًا؛ إِلَّا أَنَّ فِي إِظْهَارِ الْعَمَلِ بِهِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ مَا يُخَافُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُ سُنَّةٌ؛ فَتَرْكُهُ مَطْلُوبٌ فِي الْجُمْلَةِ أَيْضًا مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ. وَلِذَلِكَ كَرِهَ مَالِكٌ دُعَاءَ التَّوَجُّهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَكَرِهَ غَسْلَ الْيَدِ قَبْلَ الطَّعَامِ، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ جَعَلَ ثَوْبَهُ فِي الْمَسْجِدِ أَمَامَهُ فِي الصَّفِّ. وَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا كُنَّا فِيهِ. فَاعْلَمُوا أَنَّهُ إِنْ ذَهَبَ مُجْتَهِدٌ إِلَى عَدَمِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ مِمَّا يَتَضَمَّنُهُ هَذَا الْبَابُ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَمَلَ الْوَاقِعَ عِنْدَهُ مَشْرُوعٌ، وَيَكُونُ لِصَاحِبِهِ أَجْرُهُ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى سَدِّهَا- وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ-؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ مَمْنُوعٌ، وَمَنْعُهُ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَنَّهُ مَلُومٌ عَلَيْهِ، وَمُوجِبٌ لِلذَّمِّ؛ إِلَّا أَنْ يُذْهَبَ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى أَمْرٍ مُجَاوِرٍ؛ فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَاشْتِبَاهٍ رُبَّمَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ انْفِكَاكُ الْأَمْرَيْنِ بِحَيْثُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ مِنْ جِهَةِ مَآلِهِ. وَلَنَا فِيهِ مَسْلَكَانِ: (أَحَدُهُمَا): التَّمَسُّكُ بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}. وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: نَهَى عَنْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمُتَفَرِّقِ، وَيُفَرَّقَ الْمُجْتَمَعُ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَ نَهَى عَنْ بَيْعِ السَّلَفِ، وَعَلَّلَهُ الْعُلَمَاءُ بِالرِّبَا الْمُتَذَرِّعِ إِلَيْهِ فِي ضِمْنِ السَّلَفِ-، وَنَهَى عَنِ الْخُلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّاتِ، وَعَنْ سَفَرِ الْمَرْأَةِ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ، وَأَمَرَ النِّسَاءَ بِالِاحْتِجَابِ عَنْ أَبْصَارِ الرِّجَالِ، وَالرِّجَالَ بِغَضِّ الْأَبْصَارِ.... إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا عَلَّلُوا الْأَمْرَ فِيهِ وَالنَّهْيَ بِالتَّذَرُّعِ لَا بِغَيْرِهِ. وَالنَّهْيُ أَصْلُهُ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُعَلَّلًا، وَصَرْفُهُ إِلَى أَمْرٍ مُجَاوِرٍ خِلَافُ أَصْلِ الدَّلِيلِ، فَلَا يُعْدَلُ عَنِ الْأَصْلِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، فَكُلُّ عِبَادَةٍ نُهِيَ عَنْهَا؛ فَلَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ؛ إِذْ لَوْ كَانَتْ عِبَادَةً؛ لَمْ يُنْهَ عَنْهَا، فَالْعَامِلُ بِهَا عَامِلٌ بِغَيْرِ مَشْرُوعٍ، فَإِذَا اعْتَقَدَ فِيهَا التَّعَبُّدَ مَعَ هَذَا النَّهْيِ؛ كَانَ مُبْتَدِعًا بِهَا. لَا يُقَالُ: إِنَّ نَفْسَ التَّعْلِيلِ يُشْعِرُ بِالْمُجَاوَرَةِ، وَإِنَّ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ غَيْرُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، وَانْفِكَاكُهُمَا مُتَصَوَّرٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُجَاوِرَ؛ إِذَا صَارَ كَالْوَصْفِ اللَّازِمِ؛ انْتَهَضَ النَّهْيُ عَنِ الْجُمْلَةِ لَا عَنْ نَفْسِ الْوَصْفِ بِانْفِرَادِهِ، وَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي. (الْمَسْلَكُ الثَّانِي): مَا دَلَّ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الذَّرَائِعِ عَلَى أَنَّ الذَّرَائِعَ فِي الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَذَرَّعِ إِلَيْهِ. وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَهَلْ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟! قَالَ: " نَعَمْ؛ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَجَعَلَ سَبَّ الرَّجُلِ لِوَالِدَيْ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ سَبِّهِ لِوَالِدَيْهِ نَفْسِهِ، حَتَّى تَرْجَمَهُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ: أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْ مَنْ يَسُبُّ وَالِدَيْهِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَهُوَ غَايَةُ مَعْنَى مَا نَحْنُ فِيهِ. وَمِثْلُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) مَعَ أُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، وَقَوْلُهَا: أَبْلِغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ لَمْ يَتُبْ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا الْوَعِيدُ فِيمَنْ فَعَلَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ..... لَا مِمَّا فِعْلُهُ كَبِيرَةٌ حَتَّى نَزَعْتَ آخِرًا بِالْآيَةِ: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ}، وَهِيَ نَازِلَةٌ فِي غَيْرِ الْعَمَلِ بِالرِّبَا، فَعَدَّتِ الْعَمَلَ بِمَا يُتَذَرَّعُ بِهِ إِلَى الرِّبَا بِمَنْزِلَةِ الْعَمَلِ بِالرِّبَا، مَعَ أَنَّا نَقْطَعُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ وَأُمَّ وَلَدِهِ لَمْ يَقْصِدُوا قَصْدَ الرِّبَا، كَمَا لَا يُمْكِنُ ذَا عَقْلٍ أَنْ يَقْصِدَ وَالِدَيْهِ بِالسَّبِّ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَعْضِ الذَّرَائِعِ؛ ثَبَتَ فِي الْجَمِيعِ، إِذْ لَا فَرْقَ فِيمَا لَمْ يَدَعْ مِمَّا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ، إِلَّا أُلْزِمَ الْخَصْمُ مِثْلَهُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَلَا عِبَادَةَ أَوْ مُبَاحًا يُتَصَوَّرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ ذَرِيعَةً إِلَى غَيْرِ جَائِزٍ؛ إِلَّا وَهُوَ غَيْرُ عِبَادَةٍ وَلَا مُبَاحٍ. لَكِنَّ هَذَا الْقِسْمَ إِنَّمَا يَكُونُ النَّهْيُ [فِيهِ] بِحَسَبِ مَا يَصِيرُ وَسِيلَةً إِلَيْهِ فِي مَرَاتِبِ النَّهْيِ، [فَـ] إِنْ كَانَتِ الْبِدْعَةُ مِنْ قَبِيلِ الْكَبَائِرِ؛ فَالْوَسِيلَةُ كَذَلِكَ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ الصَّغَائِرِ؛ فَهِيَ كَذَلِكَ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَّسِعُ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْإِشَارَةَ كَافِيَةٌ فِيهَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
|